12 سنة من العطاء

 

جديد المواضيع

شذرات العترة عليهم السلام >> سفر لا عودة منه

Facebook Twitter WhatsApp Pinterest Google+ Addthis

سفر لا عودة منه

 

 


رافق الإمام الرضا رسل المأمون إليه محاطاً منهم بالتعظيم والإجلال وسار معه بعض أعيان المدينة وأشرافها، وتحرك الموكب في طريقه إلى خراسان. متجنّباً المرور بالمناطق التي يكثر فيها محبّو الإمام وأنصاره، كقمّ وغيرها من المدن، وذلك بأمر من المأمون نفسه، ورغم ذلك فقد كان الناس يخرجون لاستقبال ابن رسول الله بكلّ شوق، ويهللون مكبّرين لرؤيته، ويتزاحمون للتزوّد منه بنظرةٍ. لاحظ الإمام عليه السلام أنّ هناك محاولةً للتفريق بينه وبين الناس، فكان يتحيّن الفرص للتحدّث إليهم. ولمّا وصلت قافلته إلى «نيسابور» خرج أهلها لاستقباله، وهم الذين كانت رؤية حفيد رسول الله (ص) حلماً بالنسبة إليهم، وها هي عيونهم تكتحل بمرآه، فالأمر واقع وحقيقة وليس حلماً، وزحفت المدينة برجالها ونسائها لاستقباله، دون أن ينتظروا وصوله إليهم، فالشّوق عظيم والحدث كبير.

كان علماء المدينة وأعيانها يتطلّعون إلى فرصةٍ تمكّنهم من سماع حديث الإمام، لكنّ غليان الناس وحرارة استقبالهم لم تمكّنهم من ذلك، فصرخوا بالناس يدعونهم إلى الهدوء. وبعد أن صمت الجميع، رفع الإمام ستائر هودجه، وأطلّ عليهم بوجهه الصّبوح، فارتفعت أصواتهم من جديدٍ، لكنّهم بإشارة منه عادوا إلى الهدوء، وتوجّه الجميع إليه بأسماعهم يلتقطون كلّ حرفٍ يقوله، وكان على الإمام أن يقول لهم كلّ شيءٍ. وعليه أن يتوخى الحكمة والحذر، وأن يوجز في حديثه لأنّ الفرصة قصيرة. قال عليه السلام: حدّثني أبي موسي الكاظم، عن أبيه جعفر الصادق، عن أبيه محمد الباقر، عن أبيه عليّ زين العابدين، عن أبيه الحسين شهيد كربلاء، عن أبيه علي بن أبي طالب أنه قال:

حدّثني حبيبي وقرّة عيني رسول الله (ص) عن جبرئيل أنّه قال: سمعت ربّ العزّة سبحانه يقول:

«كلمة لا إله إلاّ الله حصني، ومن دخل حصني أمن عذابي».

كتب الألوف من رواة الحديث قول الإمام عليه السلام، وهو من الأحاديث المتّفق عليها بين المحدّثين، وهو من رواية الطّاهرين عن آبائهم الطيبين، وكان بعض السّلف يقول: لو قرئ هذا الإسناد على مجنونٍ لأفاق.

وتحرّك الإمام من نيسابور» ليتابع رحلته إلى «مرو»، حيث المأمون يستعدّ لاستقباله والحفاوة به، ولمّا وصلها أنزله منزلاً كريماً، محاطاً بكلّ مظاهر التّقدير والاحترام.

استبشر الناس خيراً بمقدم الإمام (ع)، فقد تخيّلوا أنّ الماضي البغيض قد ولّى إلى غير رجعةٍ، وأنّ أيام الخلاف والاقتتال قد انتهت، فها هو المأمون يستعدّ لإرجاع الحقّ إلى أصحابه، وها هو صاحب الحقّ قد أقبل، وستغدو الأيام رخيّةً سهلةً، لكنّهم كانوا واهمين، فالإمام عليه السلام يعرف حقّ المعرفة أنّ المأمون غير جادٍّ في عرضه، وأنّه يتظاهر بالرّغبة في التّنازل عن الحكم لأمر في نفسه، وإذا تجاوزنا المأمون إلى بطانته وأجهزته حوله، لرأينا أنّهم أحرص على الملك والجاه والدنيا، لذا فقد رفض الإمام عرض المأمون، فما كان من المأمون إلاّ أن عرض عليه ولاية العهد بعده، والعرض الجديد لم يكن حبّاً بالإمام، وميلاً إلى الحقّ، بل هو تغطية لمآرب أخرى، فالمأمون يرمي من ورائه للحصول على شرعيّةٍ لحكمه، كما يرمي إلى إسكات الثّائرين عليه، ومرّةً ثانيةً يرفض الإمام عرضه، فيلحّ المأمون ويهدّد، ويمعن في تهديداته حتى التلويح بالقتل، بل التصريح به، ويروى أنّ المأمون قال للإمام حين رأى امتناعه عن القبول بما يعرضه عليه: إنّك تتلقّاني أبداً بما أكرهه، وقد أمنت سطوتي، فبا لله أقسم لئن قبلت ولاية العهد وإلاّ أجبرتك على ذلك، فإن فعلت وإلاّ ضربت عنقك. كان الإمام عليه السلام يتوقّع كلّ هذا، كان يعرفه حين دخل مسجد جدّه الرسول في المدينة يودّعه، ويقول وهو يبكي: إنّي أخرج من جوار جدّي رسول الله (ص)، وأموت في غربةٍ. كان يدرك ذلك وهو في طريقه من المدينة إلى خراسان مغلوباً على أمره.

وأخيراً فلم يجد أمام إلحاح المأمون وتشدّده بدّاً من القبول، إنّما بشروط لا مناص منها، فقال للمأمون: أنا أقبل ذلك على أن لا أولّي أحداً، ولا أعزل أحداً، ولا أنقض رسماً ولا سنّةً، وأكون في الأمر من بعيدٍ مشيراً.

رضي المأمون، وتمّت البيعة للإمام بولاية العهد، بحضور الوزراء والقادة والأعيان، وحشدٍ كبير من الناس. ووزّع المأمون الأموال والهدايا عليهم، وتزاحم الشعراء على تقديم مدائحهم.

وبهذه المناسبة ضرب المأمون الدراهم وطبع عليها اسم الرضا (ع). وصار الخطباء يفتتحون خطبهم بالدعاء للمأمون والرضا (ع).

وفي خراسان عقد الإمام مجالس المناظرة مع العلماء والأطبّاء وغيرهم، فكان علمه وسعة اطّلاعه مبعثاً لعجبهم، وكان المأمون يحضر بعض هذه المجالس، ولا يستطيع أن يخفي غيظه وحسده لمكانة الإمام، رغم ادّعائه تشجيع العلوم والأبحاث، وكان الإمام حين يرى منه ذلك، يختصر أحاديثه ويوجزها ما أمكنه، خاصّةً وأنّه أدرك أنّ الموكلين بأموره وقضاء حوائجه كانوا في الحقيقة عيوناً للمأمون عليه، فكان عليه السلام يتلوّى من الألم، ويتمنّى لنفسه الموت ليتخلّص من حياةٍ تحيط بها المكاره، وكان يقول: اللهم إن كان فرجي ممّا أنا فيه بالموت فعجّله لي الساعة.

 

 

 

مهدي
1460قراءة
2016-01-18 21:48:25

تعليقات الزوار


doha tarhini