سيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله المستوى 2 (ج1)
القدوة والأسوة محمد صلى الله عليه وآله وسلّم
لقد كان النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلّم شخصيّة مثاليّة، تحتلُّ مكانها السامي في ذروة عالم الخليقة، سواء في الأبعاد التي بوسع البشر إدراكها، أو على نطاق الأبعاد التي لا يطالها الإدراك الإنساني. الإمام القائد(دام ظله الوارف)
مقدمة:
كل من وقف أمام الشخصية الفذة التي خلقها الله تعالى. كأفخر وأروع شخصية في الحياة. ثم تأمل في سيرة هذه الشخصية، انبهر بها أيّما انبهار، فشخصية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلّم هي اللوحة الجميلة الجليلة التي رسم فيها كل سمو، وكل جمال، فإنّ هذه اللوحة الباهرة تبلغ من الظهور والوضوح مبلغاً لايدع فرداً نظر إليها إلاّ وجذبته نحوها جذباً، إن هذه اللوحة الرائعة، هي لوحة تاريخ رسول الإسلام محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلّم .
مكة المكرّمة.. مدينة حجازية أنشأت منذ عهد إبراهيم الخليل عليه السلام ، الذي أمره الله تعالى أن يرحل ببعض ذريّته إلى أرض الحجاز، ليبني هناك بيتاً لله يعبد فيه ولا يشرك به، فجاء وعمَّر البيت الذي سُمي الكعبة. ومن نسل إبراهيم انحدرت قبائل استعربت فيما بعد.. وكانت إحدى هذه القبائل تسمّى بـ"قريش" التي كانت منقسمة إلى عشرة فروع.. لكلٍ سيادته واستقلاله، ونظامه القبلي الخاص.
بنُو هاشم:
بنو هاشم إحدى قبائل قريش العشر، التي كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلّم ينتسب إليها، حيث إنه كان من أحفاد عبد المطلب الذي كان بدوره من أبناء هاشم، شيخ العشيرة.
عبد الله وآمنة عليهما السلام :
كان عبد المطلب، شيخ بني هاشم، ورئيسها المطاع. وكان له عشرة أولاد، أصغرهم وأفضلهم هو عبد الله. وكانت في مكة قبيلة تعرف ببني زهرة، وكانت امرأة من هذه القبيلة تسمى بـ "آمنة "بنت أحد شرفائها "وهب بن عبد مناف ". فلمّا شبَّ عبد الله، زوّجه والدُه بآمنة، وتمَّ الزواج على أسعده.
الميلاد المبارك:
ولم تمض إلاّ مدة يسيرة حتى حملت آمنة بسيّد البريّة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلّم في حين أن عبد الله، والده الكريم، كان قد سافر في رحلة تجارية إلى الشام. فلما بلغ مدينة "يثرب" التي سميت فيما بعد بمدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ، توفاه الله تعالى، فولد النبي صلى الله عليه وآله وسلّم في السابع عشر من ربيع الأول من العام 571 ميلادي (عام الفيل) يتيم الأب.
ورافقت ميلادَه الكريم حوادث خارقة حيث أصبحت الأصنام كلها صبيحة ولادته صلى الله عليه وآله وسلّم ليس منها صنم الا وهو منكب على وجهه، وارتجس في تلك الليلة إيوان كسرى ملك الفرس وسقطت منه أربعة عشر شرفة وغاضت بحيرة ساوة، وفاض وادي السماوة وخمدت نيران فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام.
عهد الرضاع:
لم يرضع صلى الله عليه وآله وسلّم من أمه سوى ثلاثة أيام، ثم حظيت بشرف إرضاعه حليمة السعدية بنت أبي ذؤيب من بني سعد. فقد رأى عبد المطلب أن يرسل حفيده إلى البادية ليكمل رضاعه هناك، وينشأ ويترعرع في البادية، ليكتسب اللغة الصحيحة، والقوة والمناعة. وكانت حليمة ترعاه هي وزوجها وتقدمه حتى على أولادها، وقد وجدت فيه كل الخير والبركة، وقد روي عنها أنها قالت: «.. فكانت غنمي تجئ حيث حلَّ محمد فينا جياعاً فنحلب منها ونشرب ويتدفق الخير علينا، وأصبح جميع من في الحيّ يتمنى ذلك اليتيم الذي يسَّر لنا الله ببركته الخير ودفع عنا الفقر والبلاء».بقي النبي صلى الله عليه وآله وسلّم مع حليمة إلى أن بلغ سن الخامسة، ولما بلغ السادسة من عمره، رافق أمه آمنة في سفرة ودّية الى يثرب "المدينة ".. وأثناء عودتهم. توفيت آمنة في منزل "الأبواء" تاركة ابنها الوحيد يتيم الأبوين.
كفالة أبوطالب:
ولما بلغ الثامنة توفّي عبد المطلب جده وكفيله، وترك كفالة محمد صلى الله عليه وآله وسلّم إلى أبي طالب، كما خوّل إليه سيادة بني هاشم، ووفادة الحاج. ولم يكن أبوطالب كفيل النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فقط، بل كان بمثابة والدٍ حنون، فكان صلى الله عليه وآله وسلّم يذهب معه الى المرافق العامة، حتى تلك التي كانت محرّمة على غير السادة والأشراف، ولما أراد أبوطالب أن يذهب في رحلة التجارة الى الشام، اصطحب معه النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وهو فتىً لم يبلغ من العمر ما يؤهله الى مثل هذه الرحلة المليئة بالأخطار. وحينما سارت القافلة، رأوا شيئا غريباً لم يكونوا عرفوه من قبل. فقد رأوا أن سحابة ترفرف على القافلة فَتُظللهم من الشمس. وتُبدِّل الرحلة الخطيرة إلى رحلة سعيدة مريحة.
الراهب بُحيرا:
بالقرب من مدينة بصرى القديمة، كانت تقوم صومعة لعابد مسيحيّ اشتهر انه صاحب كرامات وتنبؤات صادقة. ولم يكن هذا الراهب يعتني بالقوافل التجارية التي كانت تمرّ بمنطقته في سيرها إلى الشام وإلى الحجاز بتاتاً، إلا أن الأمور تبدلت في هذه المرة.. فقبل أن يصل الركب، رأى الناس أن الراهب يتطلع إلى الصحراء تارة والى السماء أخرى كأنه يطلب شيئاً ما.. فلما اقترب الركب، لاحظوا أن الراهب يراقب سحابة في السماء كأنها تسير على أثر خطوات الخيل والجمال سواء بسواء. وحينما وصلت قريش إلى رحاب الصومعة دعاهم الراهب إلى الإقامة فيها للعشاء تلك الليلة، فتعجب الناس من هذه البادرة، إلا أن الراهب أزال دهشتهم بتصريح أدلى به على مأدبة العشاء حيث قال: إن إكرامه وإعظامه لقريش إنما هو لوجود هذا الفتى السعيد بينهم، وبشّرهم بما سوف يكون من أمره من الرسالة المقدسة. وتكررت هذه البشارة مرة أخرى في الشام، حيت التقى بالنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلّم راهب آخر كان يدعي بـ"ابو المويعب"وبشر الناس قائلاً: هذا نبيّ الزمان.
إعادة بناء الكعبة
بَدرت من النبي بوادر طيبة جعلت الناس تنظر إليه بتوقير وإحترام. فحينما هدم السيل بنيان الكعبة، أرادت قريش ترميمه، فاختلفت بمن سيحظى بشرف وَضْع الحجر الأسود في مكانه من ركن الكعبة. وكاد زعماء قريش يحارب بعضهم بعضا، ولكن قرروا أن يحتكموا الى أول داخل من الباب، وقفوا ينتظرون فإذا بطلعة النبيِّ محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلّم قد أشرقت عليهم، وإذا صوت منهم يقول: هذا الأمين قد رضينا به. فعرف النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلّم ماجرى بينهم، فأمر بأن يؤتى بثوب، ويأخذ كل زعيمٍ بطرف منه ثم وضع الحجر فيه وأمر برفعه حتى إذا تساوى مع الحائط أخذه النبيُّ ووضعه في موقعه. وهكذا حفظ النبي بهذا الحكم العادل المنصف حقوق القبائل كلها، كما الحجر فاز بفخر تركزّه من النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ، ورضيت به قريش صاحب فخر ومجد بالغين.
الأمين.. الحكيم:
وحيث عرف أهل مكة فيه هذا السمو الخُلقي والنبل المعنوي، فقد ائتمنوه على أمورهم، وسلَّموا إليه ودائعهم، كما أفشوا إليه أسرارهم، واستشاروه في قضاياهم الخاصة.. فكان يعرف بينهم بالأمين وبالصادق الحكيم.
أما ما يخص أبي طالب، فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وفياً له. فكان أبوطالب فقيراً معيلاً، لذلك اشتغل صلى الله عليه وآله وسلّم برعي الغنم لمساعدة عمه شأن صبيان العرب في مكة، بفارق أنه كان يتأهل بذلك لمسؤولية الرسالة ايضاً. ومرّت الأيام، وشبّ النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ، فأخذ يمارس التجارة. ثم سعى عمه في إرساله بتجارة إلى الشام تخص السيدة خديجة بنت خويلد عليها السلام ، المرأة الثرية التي كان يتاجر بأموالها كثيرون من سكان مكة، على ان يكون الربح بينها وبينهم، فتمَّ له ذلك. وحينما ذهب النبي صلى الله عليه وآله وسلّم في هذه الرحلة التجارية، كانت من أوفق التجارات التي تمت بمال خديجة إلى ذلك الحين. ولمّا عرفت منه الصدق والأمانة والأخلاق العالية رغبت بالزواج به، فقبل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم بذلك، ووافق عليه عمه أبوطالب. فتم الزواج السعيد في السنة الخامسة والعشرين من عمر النبيّ الشريف. رزق صلى الله عليه وآله وسلّم من خديجة خمسة أولاد هم زينب وأم كلثوم وفاطمة ورقيّة والقاسم عليهم السلام ، توفوا جميعاً في الصغر ما عدا فاطمة عليها السلام . أما بالنسبة إلى خديجة فإنها أصبحت زوجة النبيّ ولها من العمر سبعة وعشرين عاماً، والأم الكبرى للمسلمين. بعد أن اتَّصل بها أشرف الخلائق أجمعين. وقد كانت خديجة أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلّم ، ثم نصرته وبذلت ما لديها من المال والجاه والحكمة في سبيله وفي سبيل نشر دعوته المقدسة. وقد كانت وفاة خديجة تعادل عند النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلّم موت عمه أبي طالب، فلقد تأثر بهما تأثراً بالغاً. ثم فقدهما في عام واحد سماه عام الحزن.
سيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله المستوى 2 (ج2)
وبعد الرسالة
العالم في ذلك الوقت أحوج ما يكون إلى رسالة. وإلى رسول. فهذي عربٌ تئد البنات وتقول: نِعْمَ الصهرُ القبر. وتُكثر الحرب، وتحسب أنها مفخرة للإنسان. وتؤمن بالخرافات بالكهّان والعرّافين، وتعبد الأصنام وقد شاع بها الظلمُ. وهذه سائر مناطق الأرض في مملكة الروم، وفي امبراطورية الفرس، شاع فيها الفساد والعدوان، وكثرت فيها الفواحش والموبقات.
فهؤلاء حكماء العرب يبشَّرون بنبيٍّ يُبعث، وينقذ الإنسانية من هذه الهاوية السحيقة. وهؤلاء يهود يثرب يتطاولون على العرب بنبيٍّ يبعث فيهم ويأتي بكتاب عظيم، ويخضع لدعوته العالم، فيصبحون أعزاء في الحياة. وهؤلاء الكهنة والعرّافون لايزالون ينتظرون النبيّ الذي يكون خاتم النبيين. وسيَّدهم. فمن هو هذا النبيَّ، ومتى يبعث. ؟؟.
هنا في بيت خديجة عليها السلام يُعرف رجل لم يشترك في باطل قط، ولا غاب الخير والصلاح عن رحابه. إنَّ هذا الرجل تجتمع فيه جميع مؤهلات الرسالة. فهوأحسن الناس خُلقاً، وأفضلهم عملاً، وأقربهم إلى الحق وابعدهم عن الباطل. ففي الشمال الشرقي من مكة، يرتفع جبل النور، وفيه غارٌ أعتاد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم أن يظلّ فيه أياماً يعبد الله ويطيعه، ويمارس نُسكاً خاصة لايعرفها أهل مكة.
وذات يوم يروح محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلّم إلى حِراء فيرى كلَّ شيء قد تبدّل.. وإذا به يرى السماء قد فتحت أبوابها، وجبرائيل عليه السلام يهبط إليه ويقول له: اقرأ.. فيقول له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم : ما أنا بقارئ، فيقول جبرائيل عليه السلام :{ بِسْمِ الله الرَّحمنِ الرَّحيم، اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأََكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ }(العلقِ/1-5). وكان هذا الحادث في السابع والعشرين من شهر رجب. وهكذا بُعث النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بالرسالة. وابتدأت مرحلة جديدة من حياته الكريمة، فأصبح الآن البشير النذير الذي يحمل على كتفه مسؤولية قيادة الإنسان الى كل خير. وصيانته من كل شر. كما أنها ابتدأت بالبعثة مرحلة جديدة للجزيرة العربية، بل للعالم كله.
بداية الدعوة
ورجع النبي صلى الله عليه وآله وسلّم إلى مكة فبلَّغ خديجة عليها السلام ما جرى له، وقص عليها القصة فآمنت به، كما أنه حدَّث بها ابن عمه عليّاً عليه السلام - كان شاباً قد تكفل النبي تربيته - فآمن معه.. ثم أعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم دعوته حينما نزلت هذه الآية:{ يَآ أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ }وابتدأ بعشيرته حيث نزلت عليه آية اخرى تقول: { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَقْرَبِينَ }(الشعراء/214). فجاء النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلّم حتى وقف على الصفا فنادى. فاجتمعت إليه قريش فقالوا: مالك؟ قال: أرأيتكم إن أخبرتُكم أنَّ العدو مُصبحكم أو مُمسيكم، ما كنتم تصدقوني؟ قالوا: بلى. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد". فقام أبولهب - أحد أعمام النبيّ - وقال: تبّاً لك، ألهذا دَعوتَنا!.
وخطب فيهم كلمات عظيمة ولكن لم تكن تلبية القوم إلاّ مثل تلبية أبي لهب. فقد أعرضوا عنه، واستهزؤوا به، وسخروا بدعوته. بينما هو فظل يدعوا بشتى الأساليب، حتى وصل خبر دعوتها كل مكة وما حولها. فآمنت بدعوته بعض النفوس النيِّرة الخيِّرة التي كانت تريد الحق والخير. ولكن كان أكثرية التابعين من الطبقة الفقيرة المستضعفة.
أما سادة قريش وأشرافها.. والتي كانت مصالحهم ترتبط بالأصنام والأزلام. فقد اعتبروا هذه الدعوة شرّاً يجب أن يقاوَم وأن يحاربّ بكل وسيلة. ولذلك فهؤلاء عارضوا الدعوة لا بل وقفوا بوجهها وحاربوها، فكم من رجل منوَّر القلب اعترف بالنبي، فتعرّض للتعذيب والتنكيل والقتل من قبل قريش؟ فهذا عمار قد عذَّبوه ونكَّلوا به. وهذا ياسر أبوه، وهذه سُميّة أمّه قد قتلوهما قتلاً!.
ولم يكن نصيب النبي صلى الله عليه وآله وسلّم من هذا التعذيب والأذى قليلاً. فإنه كان كلما سمع أنَّه عُذِّب أو أوذيَ أحدٌ في سبيل دعوته تألَّم وتأثَّر.. وبالإضافة الى ذلك فقد كانت قريش تتعرض للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم بالذات، إذ كان أبولهب يرمي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم بالحجارة، وكانت زوجته تُلقي في طريق الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم الأشواك. وكان أبوجهل يحاول إثارة غضبه بإلقاء الغرث على رأسه وهوفي الصلاة، أويرمي القذر في طعامه وهو يأكل؟ وشجَّ أحد الكفَّار رأسه الشريف صلى الله عليه وآله وسلّم بالقوس حتى جرت دماؤه على وجهه الكريم!. وكان بعض آخر منهم يلطِّخون داره بالأقذار، وقد يلقون بها في فناء داره.. عدا عن السخرية والإستهزاء الذي كان مرافقاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم في كل حين.
وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم يقابل كلّ ذلك بصبر حكيم، وحلم قائد. وأناة نبيّ.. فإذا جاءت إليه طائفة كان يدعوهم للإسلام فإذا لبوا كان خيراً وإذا رفضوا حاججهم بأن يأتوا بمثل القرآن.. ثم يتلوعليهم: { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوكَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً }(الاسراء/88) . ولكن ختم الله على قلوبهم...
وكان في بعض الأحيان يتجوَّل في العشائر، ويدعوالناس إلى ربهم. بيد أن كفار قريش كانوا يعرقلون طريق دعوته بأمرين:
الأول: أنهم كانوا يحذرون الناس من التأثر بدعوته، بحجة أنه ساحر ومجنون. حتى أن الناس كانوا يضعون القطن في آذانهم لكي لايسمعوا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلّم .
الثاني: أنه كان يسير خلفه رجل منهم ويصيح إنه كذاب فلا يُسمع قولُه، ولا تُلَبَّى دعوتُه.
وعجز كفارُ قريش عن أن يمنعوا سير الدعوة الحثيث واشتهارها بهذه المعارضات. ففكروا هذه المرة بأن يغتالوا النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلّم نفسه، ولكنه كان قرب سندٍ قويّ، لم يقتدر الكفار أن يأتوا عليه، وهوعمُّه وناصره أبوطالب سيد قريش وشيخ بني هاشم. فحاولوا أوّل الأمر إغراء أبي طالب، ولكنه لم يشك في صدق مقالة ابن أخيه والرسول المبعوث إليه، ردّهم ولم يقبل أيَّ واحد من اقتراحاتهم ؛ وخاطب النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلّم قائلا: أُدع إلى ربّك. فإني لن أتخلَّى عنك أبداً..
حصار الشعب
وحينما رأت قريش أن أبا طالب لن يتخلى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ، دبّرت له خطة أخرى، حيث أجمعت أمرها على مقاطعة النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلّم وكلّ من يؤازره من بني هاشم. وكتبوا صحيفة بشأن هذا القرار، ومنعوا الناس من أن يبيعوا شيئاً إلى بني هاشم. فجمع أبوطالب بني هاشم وجعلهم في شِعْبٍ كان له في أطراف مكة، وبقوا هناك ثلاث سنين في اشدّ ما يكون من سوء العيش. وشاء الله بأن تنقضي مدة هذا النفي فأمر بالأرضة "وهي دابة صغيرة "بأن تأكل الصحيفة. فأكلتها، وأَلْهَم نبيَّه بشأن ذلك، فأخبر النبيُّ أبا طالب عليه السلام الذي حاجج الكفار وتبيّن صدق دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ، فخرج بنوهاشم من المنفى منتصرين. وتمَّ بذلك عهد كان من أشد العهود على النبيِّ وآله صلى الله عليه وآله وسلّم . وأصعبها جميعاً، فإن خسارتها كانت بالغة وكبيرة أيضاً، حيث نتج عن الحصار الإقتصادي والإجتماعي على بني هاشم موت خديجة، وموت أبي طالب عليهما السلام ، فموتهما كان بمثابة هدم حصن حصين بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم في تلك الظروف.
الهجرة الى الحبشة
واشتدت الأزمة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلّم بعد وفاة أبي طالب. لأن قريشاً أجمعت أمرها على سحق المسلمين ومحق الدعوة الإسلامية، فقامت بضغط عنيف على المسلمين، وبأذىً كثير للنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلّم وحاولوا مراتٍ عديدةً قتله إلاّ أنَّ الله منعه منهم. فأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يعدّ تدابير لهذه الأزمة المحيطة به وبالمسلمين.. فبالنسبة إلى المسلمين أمرَهم بالهجرة إلى الحبشة.. وقد تمت هذه الخطة بترحيل طائفتين كبيرتين منهم إليها، فتخلصوا من شرّ الكفار وكيدهم، وقد آواهم ملك الحبشة. وأكرم وفادتهم.
الهجرة الى الطائف
وأما بالنسبة إليه صلى الله عليه وآله وسلّم فقد ذهب إلى الطائف - وهي مدينة قريبة من مكة تقطنها قبيلة ثقيف - لعله يستطيع أن يهدي أهلها فيمنعوه من قريش. بيد أن هذه الخطة لم تحظ بنجاح، فقبيلة ثقيف لم تقبل الإسلام، بل سلّطت سفهاءَها وجُهَّالها على النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فآذوه شر أذية وأرسلوا إلى مكة ينقلون إلى قريش قصة دعوته لهم إلى الإسلام، فعاد الى مكة بالجراح والأسى والحزن.
وعرف النبي صلى الله عليه وآله وسلّم أخيراً أن أهل مكة لا يمكن أن يكونوا الحاملين للرسالة الإسلامية المقدسة، فصمَّم على نشر الدعوة بين سائر القبائل العربية الأخرى، فإذا استطاع أن يهدي قبيلة واحدة ذهب إليها وظلّ ينشر نور الإسلام من خلال أفرادها. فأخذ يدعو الناس في المواسم التي كانت العرب تتدفق فيها على مكة لغرض العبادة أو التجارة، وكانت قريش ترسل وراءه من يعقّب على كلامه بتحذير العرب من طاعته، وتهجّن دعواه، وكان عمّه أبولهب يتولى هذه المهمّة في أغلب الأحوال.
سيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله المستوى 2 (ج3)
الهجرة الى المدينة
أما القبائل العربية فكانت تتعصّب لآلهتها المزعومة، وتؤثر البقاء على تقليد الآباء. كما كانت تحذر من قريش إذ لو كانت تُسلم لكانت تتعرض لحرب قريش قطعاً. فكانت تردّ النبي ولا تقبل دعواه، إلاّ أن قبيلة واحدة استجابت إلى دعوة النبي ص، وهي الساكنة في يثرب، والتي كانت منقسمة إلى طائفتين: الأوس والخزرج، كانت الحرب بينهما قائمة على أشدها. وبذلك أخذ الإسلام ينتشر في المدينة "يثرب" بشكل واسع. وتمّت بيعة مسلمي المدينة الثانية مع محمد صلى الله عليه وآله وسلّم في العقبة بمنى في السنة الثانية، وتمت بها الاتفاقية العسكرية بين النبي وأنصاره من أهل المدينة. وكان اللازم بموجبها على المسلمين من أهل المدينة الدفاع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وعن سائر المسلمين من أتباعه بكل ما لديهم من قوى حربية.
وابتدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بتنظيم الهجرة الى المدينة. فأخذ يرحّل أصحابه إليها واحداً بعد آخر على حين غفلة من كفّار قريش، وحينما سمع الكفّار بذلك قالوا في ما بينهم: إنَّ المسلمين إذا اجتمعوا في المدينة، كَوَّنوا قوةً معارضة تكلفنا كثيراً من المال والدم.. ففكروا في إعاقة الهجرة بمنع المسلمين ترغيباً أوترهيباً.. بيد أنَّ المسلمين أخذوا يفلتون من أيديهم في غياهب الليل.. فقال الكفَّار لأنفسهم: إنَّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم لايزال بين ايدينا. فلو هاجر إلى المدينة وجمع أنصاره حوله، فهنالك يصبح من الصعب القضاء عليه. فاجتمعوا في دار الندوة وتشاوروا في الأمر. حتى استقر رأيهم على أن يأتوا من كل قبيلة برجل، ثمَّ يهجموا على النبيِّ هجمةً واحدةً فيقتلوه ويضيع دمه بين قبائل العرب، فلا يستطيع بنو هاشم من أخذ الثأر منهم. فاختاروا من كل عشيرة رجلاً، وأحاطوا بدار النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلّم ، ولكن الوحي نزل وأمره بأن يتخذ الليل جملاً مهاجراً إلى المدينة، وأوضح له كل شيء من تدابير قريش وخططهم.
فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلّم الإمام عليّاً عليه السلام مكانه يبيت في فراشه لكي يظن الكفار انه صلى الله عليه وآله وسلّم موجود فيشتغلوا به ويخرج هومن طريق آخر.. فبات الإمام عليه السلام على فراش الموت ينتظر المصير الكائن.. بينما سار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم وبقي فترة من الزمن في غار ثور حتى يفلت من قريش حيث لحقت به عندما إكتشفت أن أمير المؤمنين عليه السلام في الفراش وكانت المعجزة بأن جعل الله العنكبوت تصنع بيتها على باب المغارة وجعل اليمامة تضع عشها على بيت العنكبوت فرأى الكفار هذا المشهد فاستبعدوا أنه داخل الغار.. ثم سار إلى المدينة وعندما وصل احتفل أهلها احتفالاً رائعاً بقدومه. وتمت بذلك الهجرة النبويَّة في الأول من ربيع الأول سنة ثلاث عشرة للبعثة، التي كانت بداية حياة جديدة للمسلمين، حياة العزة والمنعة، وحياة الدفاع عن حقوقهم، وحياة التوسع والانطلاق إلى آفاق العالم..
وبقيت في مكة طائفة من المسلمين تَمَّ ترحيلُهم ايضاً بقيادة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ، بعد التغلب على صعوبات شديدة. وهناك فكّرت قريش في أساليب أخرى للقضاء على الإسلام والمسلمين بعدما فات وقت الأساليب السابقة ومنها:
1- بعث رسائل إلى أهل المدينة يريدون فيها منهم تسليم محمد صلى الله عليه وآله وسلّم إليهم، بيد أن المسلمين هزئوا بهذه الفكرة، وسخروا من أهلها.
2- وضع الحصار الإقتصادي على المدينة. فأصدروا بياناً الى القبائل البدوية في الشام واليمن حظروا فيه بيع المواد الغذائية لأهل المدينة.
وأما النبي صلى الله عليه وآله وسلّم الذي أخذ على عاتقه مسؤولية الدفاع عن المدينة والذي كان يرى أن الحصار الإقتصادي الذي ابتلي به أهل المدينة إنما هو لأجله وبسببه. فإنه دبر خطة دفاع عن هذا الحصار بما سيأتي من أمر غزوة بدر.
حالة المدينة عند وصول النبي
وصل النبي صلى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة فوجد فيها عناصر ثلاثة:
1- المسلمون: وهم يتألفون من أوس وخزرج ومهاجرين.. فاستطاع النبي صلى الله عليه وآله وسلّم أن يجعلهم أخوة متألفة قلوبهم، وأصبحوا "أمة واحدة كأسنان المشط.. في التساوي والتعاون ".
2- المنافقون: وهم طائفة كبيرة من العرب. أظهروا الإسلام وأضمروا الكفر. وقد قدر النبي صلى الله عليه وآله وسلّم على أن يشل حركات هذه الطائفة ونشاطاتها باللُّطف حينا، وباعطائهم بعض المناصب التي تشغلهم، وبعض المسؤوليات التي تسدّ فراغهم حيناً آخر..
3- اليهود: الذين كانوا قوة رهيبة يملكون من المال والسلاح والحيلة الشيء الكثير. ولقد وضع النبي صلى الله عليه وآله وسلّم اتفاقيات سياسية وعسكرية معهم، تضمن للفريقين التعايش السلمي والدفاع المشترك عن البلاد وأهلها.
وكانت مسؤوليات الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في المدينة كثيرة حيث كان يريد أن يكوِّن أمة، قبل ان يشيد دولة. فمسؤولية التبليغ لغير المسلمين، ومسؤولية تهذيب المسلمين، ومسؤولية تطبيق نظم الإسلام، ومسؤولية الدفاع عن المسلمين في الجزيرة العربية التي كان شعارها الحروب والغزوات. ففي نفس الوقت الذي كان النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلّم يقود الجيش الإسلامي إلى جبهات القتال كان يوصيهم بأداء الأمانة والوفاء بالعهد. كان يلقنهم دروس التضحية والجهاد للدين، ويشرح لهم معاني العفو والصفح، واشاعة السلام وإطابة الكلام. ومن كل هذا نكتشف مدى خطورة مسؤولية النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلّم التي كانت تهدف إلى تكوين الأمة الموحدة، كأفضل وأمجد أمة في الحياة.
سيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله المستوى 2 (ج4)
الحروب التي خاضها المسلمون في حياة النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلّم كانت تنقسم إلى ثلاثة أنواع:
الأول: الذي كان بينهم وبين قريش.
والثاني: الذي كان بينهم وبين اليهود الساكنين في حصون اليهود حول المدينة.
والثالث: الذي كان بينهم وبين سائر الأعراب الذين تصدوا لمنع تقدُّم الإسلام، ووقفوا أمام انتشاره.
أولاً: حروب النبي مع قريش:
معركة بدر
كانت معركة بدر أول معركة مسلحة كبرى خاضها النبي صلى الله عليه وآله وسلّم والمسلمون في مواجهة المشركين من قريش، وذلك يوم الجمعة في السابع عشر من شهر رمضان المبارك في السنة الثانية من الهجرة، قرب بدر على بعد حوالي مائة وستين كيلومتراً من المدينة فيما بينها وبين مكة المكرمة. خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ومعه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً من أصحابه مستهدفين السيطرة على القافلة التجارية التي كان يقودها أبو سفيان، المتوجهة من الشام الى مكة، لا طعماً في المال والغنيمة وإنما بغية التعويض على المسلمين مما أخذه منهم المشركون، وفرض حصار اقتصادي على قريش، لعلَّ ذلك يدفعها الى الامتناع عن محاربة الدعوة، والتآمر على الاسلام والمسلمين.
لقد كان قرار التصدي للقافلة ينطوي على احتمال تطور الموقف، وحصول مواجهة عسكرية، ونشوب معركة حاسمة ومصيرية، وهو ما حصل فعلاً. فقد علم أبو سفيان بتحرك النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فغيّر طريقه، وأرسل الى مكة يطلب النجدة من قريش، فأقبلت قريش بأحقادها وكبريائها بألف مقاتل لحماية القافلة، وحين علمت قريش بنجاة القافلة حاول بعض قادتها أن يكتفي بذلك ويدعوالى الانسحاب والعودة الى مكة، إلاّ أن أبا جهل وغيره أصرَّ على العدوان، فقرروا الهجوم على المسلمين والتقى الجمعان في بدر، وبدأت المعركة بالمبارزة ثم التحم الجيشان وهما غير متكافئين لا من حيث العدد ولا من حيث العتاد، ولكن الله أنزل الكثير من ألطافه ورحمته، فتدخلت يد الغيب، وجاء الامداد الملائكي للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم ، فحقق الله سبحانه النصر للاسلام والمسلمين، واندحرت قوة قريش، وتشتت جيشها بين قتيل وجريح وأسير حيث أسفرت المعركة عن قتل سبعين من المشركين وأسر سبعين، ولم يسقط من المسلمين سوى تسعة شهداء، ولم يُؤسر أحد.
وقد برز لعلي بن أبي طالب عليه السلام في هذه المعركة دور كبير، وظهرت شجاعته المتميزة بين صفوف المسلمين، حيث رُوي أنه قتل بيده ثلث قتلى المشركين،. لقد حقق المسلمون في بدر مكاسب مادية وأمنية وعقيدية وإعلامية ساهمت في خدمة الدعوة وتثبيت أركانها، وتحقيق نقلة نوعية في مجمل الأحداث في الجزيرة العربية.
معركة أحد
استمرت أحداث بدر ومعركتها التاريخية تتفاعل حقداً وكيداً في نفوس المشركين في مكة. ولم يكن لدى أبي سفيان، قائد الشرك والعدوان آنذاك، غير التفكير بالحرب ومعاودة الهجوم على المسلمين بدافع الثأر، وتحقيق نصر عسكري يغيِّر الاثار النفسية والاعلامية التي انتجتها معركة بدر.
فدق المشركون طبول الحرب، وخططوا للعدوان والهجوم على المدينة، واتفقوا على أن ترصد أرباح القافلة التجارية التي أفلتت من قبضة المسلمين وقادت الى معركة بدر، لإسناد هذه الحملة العسكرية الآثمة. زحف المشركون باتجاه المدينة وكان عددهم ثلاثة الاف مقاتل معهم العتاد والسلاح الكثير، وأخرجوا النساء معهم ليشجعن الجنود على القتال، فعرف صلى الله عليه وآله وسلّم بمسيرهم من خلال عيونه في مكة. ويقال: إن العباس بن عبد المطلب أرسل إليه من مكة بذلك، فأعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم التعبئة العامة في صفوف المسلمين استعداداً للدفاع، وبثّ العيون ورجال الاستطلاع في المنطقة لجمع المعلومات، وبعد أن استشار أصحابه في سبل التصدي، قرر مواجهة العدو خارج المدينة، فخرج صلى الله عليه وآله وسلّم في حوالى ألف مقاتل، غير أن المنافقين بقيادة عبد الله بن أبي سلول، انسحبوا قبل الوصول الى ساحة المعركة، وكانوا ثلاثمائة، بحجة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم خالف رأيهم الداعي الى قتال المشركين من داخل المدينة، فواصل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم مسيرة الجهاد بسبعمائة مقاتل، والتقى الفريقان عند جبل أُحد على بُعد بضعة كيلومترات من المدينة، في شهر شوال من السنة الثالثة من الهجرة. رسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم خارطة المعركة، وحدد مواقع جيشه، فوضع الرماة عند فتحة في الجبل، وكان عددهم خمسين رجلاً، ليسدَّ بهم ثغرة يمكن للعدوأن يتسلل منها، وليوفر حماية خلفية للجيش الاسلامي، وأمرهم بعدم ترك مواقعهم مهما حدث، فقال لهم فيما يروى عنه صلى الله عليه وآله وسلّم : «إحموا ظهورنا فإن رأيتمونا نُقتل فلا تنصرونا وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا".
وبدأت المعركة، وكان النصر حليف المسلمين في الجولة الأولى، فاستولت قواتهم على ساحة المعركة، وانهزم العدو، وبدأوا بجمع الغنائم، فاستهوت الغنائم نفوس بعض الرماة، فتركوا مواقعهم، واندفعوا نحوالغنائم، مخالفين بذلك أوامر قائدهم الذي رفض مع قلة منهم أن يترك موقعه إمتثالاً لتكليف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ، مما أحدث ثغرة في صفوف المجاهدين، فاستغلها خالد بن الوليد أحد قادة المشركين انذاك، فهاجم المجاهدين من خلفهم، فتسبب هذا الهجوم ببعثرة الجيش الاسلامي وانهزامه أمام المشركين الذين استعادوا أنفاسهم بعدما تمكّن خالد بن الوليد من قتل القلة التي بقيت على الجبل والالتفاف على المسلمين المنشغلين بجمع الغنائم، وصرخ صارخ أن محمداً قد قتل فتشتت المسلمون تحت وقع المباغتة وتفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ولم يثبت معه غير علي بن أبي طالب عليه السلام ، الذي راح يقاتل إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قتالاً شديداً ويصد كتائب المشركين ويفرقهم ويقتل فيهم، عندها نادى جبرائيل عليه السلام من السماء: «لاسيف إلا ذوالفقار ولا فتى إلا علي".
ولما رأى المسلمون الفارون صبر وثبات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وعلي عليه السلام وقوة جهادهما في سبيل الله وعرفوا ان النبي صلى الله عليه وآله وسلّم لم يمت وهو يدعوهم إليه بدأوا يعودون تدريجياً إلى ميدان المعركة حتى اجتمعوا حوله صلى الله عليه وآله وسلّم فطلب منهم ان يرجعوا إلى مراكزهم الأولى في القتال، تماماً كما هي الخطة الأولى، فقاتلوا من جديد قتالاً شديداً، وتمكنوا من صد هجمات المشركين المتواصلة، وادرك المشركون استحالة ابادة المسلمين وتفتيتهم وتحقيق انتصار عليهم، وكانوا قد أصابهم التعب والجراح، فاثروا الانسحاب عائدين إلى مكة دون تحقيق أهدافهم.
ومع ذلك فان ما أصاب المسلمين في هذه المعركة كان خسارة فادحة، فقد سقط فيها حوالى سبعين شهيداً وفي مقدمهم حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير، وعدد كبير من الجرحى حتى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم أصيب ببعض الجراح في وجهه، حسب رواية عن الامام الصادق عليه السلام وبلغت جراحات علي عليه السلام نيفاً وستين جراحة، وقيل أكثر من ذلك، بين طعنة، ورمية، وضربة أثناء دفاعه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وصده كتائب الأعداء.
معركة الخندق
وقد اجتمعت الحروب بأنواعها الثلاثة في غزوة الخندق. ولذلك سميت بـ"الأحزاب" أيضا، حيث تحالفت قريش مع بعض اليهود في المدينة وخارجها على محاربة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم .
وحينئذٍ تمَّ رأي المسلمين على أن يبقوا في المدينة، ويحفروا بينهم وبين الأحزاب خندقاً عميقاً وعريضاً.
وجاءت الجيوش المعادية كالسيل الهادر ، فرأوا الخندق فقالوا: هذه حيلة جديدة. وجاء شجعانهم، وهما: "عمرو بن عبد ودّ، وعكرمة بن أبي جهل" واقتحما الخندق حتى توسَّطا بينه وبين المسلمين.. فأخذا يطلبان المبارزة فتقدم الإمام علي بن ابي طالب عليه السلام إلى أشجع العرب في زمانه عمرو بن عبد ود الذي كان يعادل ألف فارس فقتله. وبموته ساد الرعب في صفوف الكفار. وتبادل الفريقان المُراماة بالسهام. وبقيت الجيوش الكافرة أكثر من عشرين يوما، ثم رجعوا على أعقابهم خائبين بعدما كلفهم الأمر خسائر معنوية ومادية كثيرة. وبمعركة الخندق انتهت السلسلة الكبرى من حروب النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلّم مع قريش..
سيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله المستوى 2 (ج6)
سيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله المستوى 2 (ج7)
الأنشطة الثقافية
7396قراءة
2015-12-27 15:41:14
جابر |