مجلس الامتحان
عيّن المأمون للإمام الجواد (عليه السلام) يومًا يمتحنه فيه. فحضر الإمام وقاضي القضاة والمأمون، كما حضر كبار العباسييّن، وأعيان الدولة، وجلس الناس على مراتبهم، بينما أجلس المأمون الإمام الجواد إلى جانبه.
من الجدير بالذكر أنّ تلك المجالس الفخمة التي كان العباسيون يقيمونها من وقت إلى آخر، لم تكن بالنسبة إليهم إلاّ مجالس ترفٍ ولهوٍ، ولم تكن تعقد بناءً على التعاليم الإسلامية التي تراعي أصول التساوي بين الناس، ولم يسيروا فيها على خطى الرسول صلى الله عليه وآله، وخطى الإمام عليّ عليه السلام، في جعلها مجالس للمذاكرة في تعاليم الإسلام وأحكامه، ممّا يعود بالفائدة على الجميع، بل كانت مجالس للمناظرة والمبارزة الكلاميّة وإلقاء الأشعار والخطب. فحضور الإمام في هذا المجلس لم يكن حضور مشارك أو حتى ضيفٍ، بل كان - في الواقع - حضوراً قهريّاً إجبارياً لا يستطيع منه فكاكاً ..
على أيّ حالٍ، فقد جلس الإمام في مكانٍ فخمٍ مزيّن إلى جانب المأمون، كما جلس النبيّ يوسف - من قبل - إلى جانب فرعون مصر. وفي قصص الأنبياء دروس للناس، تبيّن لهم الحقائق الكامنة وراء الأحداث التاريخية المختلفة باختلاف الأزمان، فها هو يوسف النبي، يجلس إلى جوار فرعون مصر ويدير له شؤون دولته، وفي يوم آخر، يقوم نبيّ آخر هو موسى عليه السلام، ضدّ فرعون آخر، فيهزمه ويقضي عليه. ولكنّ الكثرين لا يفكّرون في أحداث التاريخ، ويعجزون عن فهمها وإدراك مغزاها. تقول الآية الشريفة:
{ لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسّائلين}.
ساد المجلس صمت مطبق، والكلّ يتطلّع إلى رؤية الإمام الجواد، هذا القادم الجديد إلى بغداد، والذي لم تقع عليه أعين الناس من قبل، ورؤية مقدرته، وهو ابن تسع سنين، في مواجهة قاضي قضاة بغداد، ويتساءلون: هل في مقدور حفيد رسول الله أن يصمد أمام أسئلة هذا العالم الكبير؟
قطع القاضي يحيى بن أكثم حبل الصمت، والتفت إلى المأمون قائلاً:
أيأذن لي أميرالمؤمنين بأن أوجّه سؤالاً إلى أبي جعفر بن الرّضا؟
أجاب المأمون: عليك أن تأخذ الإذن منه . .
التفت يحيى بن أكثم إلى الإمام الجواد قائلاً:
«أتأذن لي - جعلت فذاك - في مسألة؟ فقال له أبو جعفر: سل إن شئت. قال يحيى: ماذا تقول في محرم قتل صيداً؟ أجاب الإمام:
قتله في حلّ أوحرم؟ عالماً كان المحرم أم جاهلاً؟ قتله عمداً أو خطأ؟ حرّاً كان أم عبداً؟ صغيراً كان أو كبيراً؟ مبتدئاً بالقتل أم معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها؟ من صغار الصيد أم من كباره؟ مصرّاً على ما فعل أم نادماً؟ في الليل كان قتله للصيد في أوكاره أم نهاراً؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله، أو بالحجّ كان محرماً؟
فتحيّر يحيى بن أكثم، وبان في وجهه العجز والانقطاع، وتلجلج حتى عرف أهل المجلس أمره».
لم يكن يحيى بن أكثم قد سمع - حتى يومه ذاك - بأكثر من وجه واحدٍ للمحرم الذي يقتل صيداً، ولم يعرف لذلك سوى حكم واحدٍ، ويفاجأ الآن بأنّ سؤالاً قصيراً واحداً يحتاج - في الإجابة عليه - إلى كلّ ذلك التفصيل الكبير . .
تحيّر يحيى بن أكثم، وتحيّر معه كلّ من حضر المجلس، وأدركوا بأنّ الإمام الجواد عليه السلام بحر من العلم والمعرفة؛ فقد أعطاهم - على صغر سنه - درساً في الأحكام، وهو أنّ الحكم في كلّ مسألةٍ يختلف باختلاف ظروفها وملابساتها.
ويروى أنّ المأمون طلب من الإمام أن يسأل يحيى بن أكثم كما سأله، فأجابه الإمام إلى طلبه، وسأل القاضي سؤالاً لم يعرف الإجابة عليه، وقال: والله لا أهتدي لجوابك، ولا أعرف الوجه في ذلك، فإن رأيت أن تفيدنا. فاستجاب الإمام إلى رغبته، وأعطاه جواب المسألة . .
عند ذاك، أقبل المأمون على من حضره من أهل بيته قائلاً: ويحكم، إنّ أهل هذا البيت خصّوا من بين الخلق بما ترون من الفضل، وإنّ صغر السنّ فيهم لا يمنعهم من الكمال، أما علمتم أنّ رسول الله (ص) افتتح دعوته بدعاء أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وهو ابن عشر سنين. وقبل الإسلام منه، ولم يدع أحداً في سنه غيره؟
أفلا تعلمون الآن ما خصّ الله به هؤلاء القوم، وأنّهم ذريّة بعضها من بعض، يجري لآخرهم ما يجري لأوّلهم؟ فقالوا: صدقت يا أميرالمؤمنين، إنّ ما تراه هو الصّواب.
مهدي
1189قراءة
2016-01-01 16:12:25
تنمية مجتمع |