الحياة السياسية للإمام الكاظم عليه السلام
استمر الإمام موسى بن جعفر عليه السلام يعمل على نفس محاور العمل والتخطيط الذي اعتمده الإمام الصادق عليه السلام في مواجهته للمجتمع.
المحور الأول: الإستمرار المتصاعد في التخطيط الفكري والتوعية العقائدية، ومعالجة الإتجاهات العقائدية المنحرفة، والنزعات الشعوبية والعنصرية والنحل الدينية.
وكانت من أخطر تلك الدعوات المحمومة هي الدعوة إلى الأفكار الإلحادية والتي أخذت تنشط وتبث سمومها في نفوس الناشئة الإسلامية وكان موقف الإمام موسى عليه السلام من هذه الدعوى موقف المتصدي والناقد لها بالأدلة العلمية الرصينة وتبيان تهافتها وبعدها عن منطق الواقع، حتى اعترف قسم كبير من حملة تلك المبادئ بخطئهم وفساد اتجاههم وقد لمعت بسبب ذلك حركة الإمام عليه السلام وذاعت مقدرتها العلمية، حتى دان بها قسم كبير من المسلمين وقد ثقل ذلك الأمر على المسؤولين فتصدوا لهم بالإضطهاد والتنكيل ومنعوهم من الكلام في مجالات العقيدة مما اضطر الإمام موسى عليه السلام أن يبعث إلى هشام (وهو أحد أصحابه) أن يكف عن الكلام نظراً لخطورة الموقف فكف هشام عن ذلك حتى مات المهدي1.
ولقد التف بالإمام أثناء إقامته في يثرب جمع غفير من كبار العلماء ورواة الحديث ممن تتلمذوا في جامعة أبيه الكبرى، وقد زود الفقه الإسلامي بطاقاتٍ كبيرة من ارائه الحصيفة، وتنسب له مجموعة كبيرة من الأحكام الإسلامية، وقد دونت في موسوعات الحديث والفقه، وكان العلماء والرواة لا يفارقونه ولا يفترقون عنه يسجلون أحاديثه وفتاواه، فقد روى السيد ابن طاووس أن أصحاب الإمام وخواصه كانوا يحضرون مجلسه ومعهم في أكمامهم ألواح ابنوس وأمبال فإذا نطق بكلمة أو أفتى في نازلة بادروا إلى تسجيل ذلك2، وقد روى عنه هؤلاء العلماء جميع أنواع العلوم على اختلافها وتباعد أطرافها، وقد عمت جهوده العلمية جميع المراكز الإسلامية، وأصبح عطاؤه العلمي يتناقله العلماء جيلاً بعد جيل.
المحور الثاني: الإشراف المباشر على قواعده الشعبية ومواليه والتنسيق معها في اتخاذ المواقف السلبية تجاه الحكم لإضعافه سياسياً ومقاطعته وحرمة الإتصال به، وعدم الترافع إلى مجالس قضائه تمهيداً لإسقاطه وإزالة وجوده سياسياً.
ومما شجع الإمام على هذا الموقف الصارم ذلك التحول الواضح من التوسع والإنتشار لقواعده الشعبية، والتي أخذت تتعاطف مع حركة الإمام عليه السلام ونشاطاته السلبية من الحكم العباسي المنحرف ودعوته في تحريم التعاون مع الحكم في أي مجال من مجالاتها، وقد ظهر هذا الموقف في حواره مع أحد أصحابه (صفوان) فقد قال له الإمام عليه السلام: "يا صفوان، كل شيء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً.جعلت فداك أي شيء؟.
كراؤك جمالك من هذا الطاغية يعني هارون.
والله ما أكريته أشراً، ولا بطراً، ولا للصيد ولا للهو ولكن أكريته لهذا الطريق يعني طريق مكة ولا أتولاه بنفسي، ولكن أبعث معه غلماني.
فقال له الإمام: يا صفوان، أيقع كراك عليهم؟
نعم جعلت فداك.
أتحب بقاءهم حتى يخرج كراك؟
نعم.
فقال عليه السلام: من أحب بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم كان وارداً للنار".
واستمر الإمام عليه السلام يعرب عن نقمته وسخطه الشديدين على حكومة هارون، ودعوته إلى حرمة التعاون معهم بأي لون كان، وقد منع عليه السلام الركون إليهم مستشهداً بقوله: "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار" وقد حرّم على المسلمين الميل وضرورة مقاطعتهم حتى لو كان ذلك مستنداً إلى بعض المصالح الشخصية وحذر أصحابه من الدخول في سلك حكومة هارون أو القبول لأي وظيفة من وظائف الدولة. فقال عليه السلام لزياد بن أبي سلمة: "يا زياد، لإنْ أسقط من شاهق فأتقطع قطعةً قطعة أحب إليّ من أن أتولَ لهم عملاً أو أطأ بساط رجل منهم"3.
وقد استثنى الإمام عليه السلام علي بن يقطين أحد أصحابه الكبار أن يتولى منصب الوزارة أيام هارون ومن قبلها منصب الأزمة أيام المهدي4 وقد تقدم إلى الإمام موسى عليه السلام يطلب منه الإذن في ترك منصبه والإستقالة منه فنهاه عليه السلام عن ذلك وقال له: "لا تفعل فإن لنا بك أنساً، ولإخوانك بك عزاً، وعسى الله أن يجبر بك كسيراً أو يكسر بك ثائرة المخالفين عن أوليائه.
يا علي كفارة أعمالكم الإحسان إلى إخوانكم، إضمن لي واحدة أضمن لك ثلاثاً. أضمن لي أن لا تلقى أحداً من أوليائنا إلا قضيت حاجته وأكرمته وأضمن لك أن لا يظلمك سقف سجن أبداً، ولا ينالك حد السيف أبداً ولا يدخل الفقر أبداً، يا علي من سر مؤمناً فبالله بدأ، وبالنبي ثنى وبنا ثلث"5..
المحور الثالث: الموقف العلني والصريح في احتجاجه على الحاكم بأنه أحق بالخلافة من غيره وأولى بها من جميع المسلمين.
وقد جرى احتجاجه عليه السلام مع هارون الرشيد وهو في مرقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمام حشد غفير من الأشراف وقادة الجيش وكبار الموظفين في الدولة، فقد أقبل هارون بوجهه على الضريح المقدس وسلم بقوله: "السلام عليك يا ابن العم" معتزاً ومفتخراً على غيره بصلته من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنه إنما نال الخلافة لقربه من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وكان الإمام انذاك حاضراً فسلم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً: "السلام عليك يا أبتِ".
ففقد الرشيد صوابه واستولت عليه موجات من الإستياء، حيث قد سبقه الإمام إلى ذلك المجد والفخر، فقال له بنبرات تقطر غضباً وحقداً: "لم قلت إنك أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منا؟".
فأجابه عليه السلام برد مفحم قائلاً: "لو بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حياً وخطب منك كريمتك هل كنت تجيبه إلى ذلك؟"
فقال هارون: سبحان الله!! وكنت أفتخر بذلك على العرب والعجم.
فانبرى الإمام عليه السلام قائلاً: "لكنه لا يخطب مني ولا أزوجه لأنه والدنا لا والدكم فلذلك نحن أقرب إليه منكم"6.
وأضطر هارون بعدما أعياه الدليل إلى منطق العجز، فأمر باعتقال الإمام عليه السلام وزجه في السجن7.
وقد كان موقف الإمام موسى عليه السلام من هارون صريحاً وواضحاً فقد دخل عليه في بعض قصوره المشيدة الجميلة التي لم يُرَ مثلها في بغداد ولا في غيرها، فانبرى إليه هارون وقد أسكرته نشوة الحكم قائلاً: ما هذه الدار؟
فأجابه الإمام غير مكترث بسلطانه وجبروته قائلاً له: "هذه دار الفاسقين، قال الله تعالى ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً﴾".
ومشت الرعدة في جسم هارون واستولت عليه موجة من الإستياء فقال للإمام: دار من هي؟
هي لشيعتنا فترة ولغيرهم فتنة.
ما بال صاحب الدار لا يأخذها.
أخذت منه عامرة ولا يأخذها إلا معمورة.
أين شيعتك؟
فتلا الإمام عليه السلام قوله تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾.
فثار هارون غاضباً "أنحن كفار"؟.
لا ولكن كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ﴾.
وهكذا فقد يرى الإمام أن هارون غاضب لمنصب الخلافة ومختلس للسلطة والحكم، مما أثار غضب هارون عليه وأغلظ في كلامه على الإمام عليه السلام8 بعد أن سمعه يتحداه بموقف لا لين فيه.
وفي موقف اخر، حينما سأله هارون عن فدك وحدودها لكي يرجعها إليه، فأبى عليه السلام أن يأخذها إلا بحدودها، فقال: ما حدودها؟
فقال عليه السلام: "إن حددتها لم تَرُدَّها".
فأصر هارون عليه أن يبينها له، ولم يجد الإمام عليه السلام بداً من إجابته فقال له: "أما الحد الأول فعدن" فلما سمع الرشيد ذلك تغير وجهه، واستمر الإمام عليه السلام في بيانه قائلاً: "والحد الثاني سمرقند" فأربد وجه هارون، واستولت عليه موجة من الغضب الهائل، ولكن الإمام عليه السلام استمر قائلاً: "والحد الثالث إفريقيا" فاسود وجه هارون وقال بنبرات تقطر غيظاً: "هيه" وانطلق الإمام يبين الحد الأخير قائلاً: "والحد الرابع فسيف البحر مما يلي الجزر وأرمينية".
فثار الرشيد، ولم يملك أعصابه قائلاً:
لم يبق لنا شيء.
قد علمت أنك لا تردها.
المحور الرابع: تحريك الضمير الثوري للأمة عن طريق تشجيعهم ومباركتهم للثورات والإنتفاضات التي مارسها علويون ثائرون حفاظاً على الضمير الإسلامي والإرادة الإسلامية من الإنهيار أمام الحكام المنحرفين، وكان الأئمة عليه السلام يسندون المخلصين منهم.
وعندما عزم الحسين بن علي بن الحسن صاحب واقعة فخ الشهيرة أن يثور على الأوضاع الفاسدة التي وصلت إلى حد الإذلال والإضطهاد الشديد لكل من هو شيعي وعلوي يوالي الإمام عليه السلام، أقبل إلى الإمام موسى عليه السلام يستشيره في ثورته وعرض عليه فكرة الثورة، فالتفت إليه الإمام عليه السلام قائلاً: "إنك مقتول فأجد الضراب، فإن القوم فساق يظهرون إيماناً، ويضمرون نفاقاً وشركاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون وعند الله أحتسبكم من عصبة".
ولما سمع الإمام موسى عليه السلام بمقتل الحسين (رض) بكاه وابنه بهذه الكلمات: "إنا لله وإنا إليه راجعون، مضى والله مسلماً صالحاً صواماً قواماً، امراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، ما كان في أهل بيته مثله"9.
ولما استأصل موسى الهادي شأفة العلويين أخذ يتوعد الأحياء منهم بالقتل والدمار، وقد ذكر الإمام موسى عليه السلام فقال: "والله ما خرج حسين إلا عن أمره، ولا اتبع إلا محبته لأنه صاحب الوصية في أهل هذا البيت"10.
فأسرع إلى الإمام أصحابه مسرعين فزعين، يشيرون عليه أن يختفي ليسلم من شر هذا الطاغية، فتبسم عليه السلام وتمثل بقول الشاعر كعب بن مالك:
زعمت سخينة أن ستغلب ربها وليغلبن مغالب الغلاب
عمل الإمام عليه السلام ومجالاته:
كان عمل الإمام عليه السلام يجري في مجالين أحدهما سري وثانيهما علني:
العمل السري: مقاومة الإمام عليه السلام للأوضاع سلكت طريقين أولاهما: الطريقة السلبية التي تحدثنا عنها وقد تمثلت في أمره لقواعده ومواليه والمرتبطين به بمقاطعة الحكم، وتجنب أي معاملة معهم على أي مستوى من المستويات (كما في حديثه مع صفوان المار الذكر).
وكانت بعض التنظيمات الشيعية تعتمد على نظام الخلايا، وكانت هناك سجلات خاصة سرية بأسماء الشيعة عند بعض أصحاب الأئمة عليه السلام11وقد جهدت السلطات الحاكمة انذاك للعثور عليها فلم تتمكن.
وعلى أي حال فإن تلك الخلايا هي التي عملت على نشر التشيع في جميع الأقاليم الإسلامية بعيداً عن أعين السلطة ورقابتها حتى أصبح قوة كبيرة وصار من العسير إرغام معتنقيه وإخضاعهم إلى رغبات السلطة، مما سوف تضطر السلطات فيما بعد كما سنرى في عهد الإمام الرضا عليه السلام كيف أن المأمون لجأ إلى الإمام الرضا وأولاه ولاية العهد12.
وبهذا الأسلوب من العمل السري يؤكد الإمام عليه السلام حقه في الحكم ويعمل على صيانة أصحابه وقواعده من الإندماج في الوضع الفاسد والإشراف عليهم والتخطيط لسلوكهم وتنمية وعيهم وإمدادهم بكل أساليب الصمود والإرتفاع بهم إلى مستوى الطليعة الواعية المتفهمة لدورها ورسالتها.
وتتمثل الطريقة السرية في عمله بجانبين:
تأييده للحركات الثورية، وإسناده للمخلصين منهم والتي قادها ثوار من أهل بيته أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، كما رأينا في موقفه عليه السلام من وقعة فخ التي قادها الحسين بن علي بن الحسن الذي يرجع نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.
فهذه الثورات كانت ترتبط بشكل من أشكال الإرتباط بإذن الإمام عليه السلام وموافقته، فهي واجهات ظاهرة لعملهم ترتبط بهم، وتعمل من أجل انتزاع الأمر للرضا من ال محمد.
ممارسة الإمام للقيادة والإشراف المباشر على شؤون شيعته وتوجيههم توجيهاً عقائدياً وفكرياً وسلوكياً خاصاً ليصنع منهم قاعدة صلبة لحركته تمتد داخل الأمة لتحقيق أهداف الإمام وتصحيح الإنحرافات التي تقع داخل الأمة.
ومن هنا كان الإمام عليه السلام ومن قبله اباؤه يتعرضون للملاحقة والمراقبة والإضطهاد.
ونظراً للمحن الشاقة والخطوب العسيرة التي واجهتها الشيعة في تلك الظروف السود، فقد كانوا لا يجدون سبيلاً للتعبير عن الامهم وبث شكواهم حتى التجأ البعض منهم إلى أن يكتب على الجدران، ليطلع على ذلك الجمهور من الناس13 ويعرّفوا مدى ما لحقهم من الضيم والإضطهاد.
وكانت بعض الشعارات المكتوبة تصور جانباً من احتجاج العلويين في أحقيتهم للخلافة ورعاية شؤون المسلمين، فهم أولى الناس بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنهم خلفاؤه على أمته14.
العمل العلني: وقد أتاح العمل العلني للإمام عليه السلام أن يباشر علاج جهل الأمة بالإسلام عقيدة وأحكاماً، ورد الشبهات الإلحادية التي أخذت تبثها الحركات التي تولدت نتيجة لانفتاح العالم الإسلامي انذاك على التيارات الأجنبية والغربية15 وهي من المشاكل الكبرى التي كانت تواجه الإمام عليه السلام وتباعد بينه وبين هدفه ولهذا بادر إلى مقاومة هذه العقائد وإبطال نظرياتها المخالفة للإسلام.
وفي مجال اخر كان الإمام يعقد المناظرات والإحتجاجات العلنية مع أئمة المذاهب الإسلامية وقادتها للتدليل على فكرة الإمامة وأطروحتها وكانت تلك المناظرات تعقد في الأماكن العامة، وكان يقوم بتلك المناظرات كل من هشام بن الحكم وهشام بن سالم، ومؤمن الطاق مما أدى إلى انتشار الفكر الشيعي وذيوع أفكاره بين المسلمين بفضل تلك الحجج القوية والبراهين الحاسمة، التي كانت تقوم على المنطق والبحث الموضوعي المجرد، وقد نعتهم (كرادي فوا) بأنهم أصحاب الفكر الحر16.
ولا شك أن عمله عليه السلام في هذين المجالين الانفين كان يقربه من الهدف بما يفرضه من إمامته العلمية وبما يهيئه من سلطان لمبادئه وقوة لأفكاره وبما يشيعه في أوساط الأمة من مناخ ملائم لدعوته.
الوشاية بالإمام عليه السلام:
كانت بعض أخبار نشاط الإمام عليه السلام تتسرب عن طريق الواشين إلى هارون الرشيد، فيثير هذا حقده وغضبه، وقد أخبر مرة بأن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام تجبى له الأموال الطائلة من شتى أقطار العالم الإسلامي وتحمل إليه من المشرق والمغرب وأن له بيوت أموال17 وقد أمر هارون بإلقاء القبض على الإمام وإيداعه السجن18.
وقد سعى يحيى البرمكي إلى هارون فأوغر صدره على الإمام عندما أخبره بأن الإمام عليه السلام يعمل على طلب الخلافة إلى نفسه وأنه كتب إلى قواعده في سائر الأقطار الإسلامية يدعوهم إلى نفسه ويحفزهم إلى الثورة ضد حكومته.
وعمل هارون من جانبه على سجن الإمام عليه السلام وعزله عن شيعته وقضى الإمام عليه السلام زمناً طويلاً (ربما ستة عشر سنة) في السجون حتى لقي ربه فيها وقد عانى أمر الالام وأدهى العذاب وقد سئم الإمام من السجن وضاق صدره من طول المدة، وكان ينقل من حبس إلى حبس تراقبه الشرطة والعيون خوفاً من اتصال أحدٍ من شيعته به.
وقد مكث الإمام عليه السلام زمناً طويلاً في سجن هارون وقد هدّ السجن صحته وأذاب جسمه حتى أصبح حين يسجد لربه كالثوب المطروح على الأرض فيدخل عليه رسول الزعامة المنحرفة فيقول إن الخليفة يعتذر إليك ويأمر بإطلاق سراحك على أن تزوره وتعتذر إليه، أو تطلب رضاه، فيشمخ الإمام عليه السلام وهو يجيب بالنفي بكل صراحة ويتحمل مرارة الكأس لا لشيء إلا لكي لا يحقق للزعامة المنحرفة هدفها في أن يبارك الإمام عليه السلام خطها فتنعكس معالم التشويه19.
وأرسل الإمام عليه السلام وهو في السجن رسالة إلى هارون يعرب فيها عن سخطه البالغ عليه، وهذا نصها: "أنه لن ينقضي عني يوم من البلاء حتى ينقضي عنك يوم من الرخاء حتى نفنى جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء، وهناك يخسر المبطلون"20.
ولقد عانى الإمام عليه السلام من سجنه ألوان العذاب والتنكيل، فتكبيل بالقيود، وتضييق شديد، وأذى مرهق، وبعدما صب عليه الرشيد جميع النكبات الموجعة دسَّ إليه سماً فاتكاً، فقضى عليه ومضى لربه شهيداً سعيداً وكانت وفاته سنة 371 هجرية لخمس بقين من شهر رجب21.
ويمكن تلخيص أسباب استشهاد الإمام موسى الكاظم عليه السلام بهذه النقاط:
أولاً: كان هارون يرى في وجود الإمام الكاظم عليه السلام منافساً قوياً في مسألة الخلافة، ويحس بالخطر الشديد من ناحيته.
ثانياً: التبليغ الذي يقوم به الإمام عليه السلام ضد النظام، وإصراره على توضيح القضايا للناس، وفضح مساوئ الحكام أمامهم، كلما سنحت فرصة لذلك، منتهى الأمر أنه عليه السلام كان يمارس التقية في هذا العمل.
و(التقية) هي: العمل لإسقاط الحاكم الظالم مع المراعاة قدر الإمكان أن لا يقع بيد الخصم مالك القوة والسلطة أي سند أو دليل يكون ذريعة للقضاء على المجاهدين قبل أن يؤدوا دورهم المرسوم. ولا تعني (التقية) بأي حال ترك العمل الجهادي، والنوم على فراش الأحلام الحريري.
ثالثاً: روح المقاومة العظيمة، والصمود العجيب الذي كان يتمتع به الإمام، ورفضه الإستجابة والخضوع لإرادة الخليفة الجائر، رغم تلك العروض المغرية التي كان يلوح بها له.
وهكذا رأى هارون أنه فشل بكل محاولاته في التأثير على شخصية الإمام، والقضاء على الروح الرسالية فيه، ووجد فيه خصماً لا يمكن أن يستسلم أو يلين أمامه. ولذلك فكر بأن الحل النهائي لهذه المشكلة هو قتل الإمام، مع علمه اليقيني بأن هذا العمل يعدّ جريمة عظمى، نتيجتها الحتمية هي سخط الله، وعقابه الشديد، ولكن السياسة الطاغوتية التي كان هارون يصرّ على اتباعها، فرضت عليه أن يسلك هذا الطريق للتخلص من حياة هذا الخصم العنيد مهما كانت النتائج.
المصدر:
* الحياة السياسية لأئمة أهل البيت عليهم السلام, سلسلة المعارف الإسلامية , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
________________________________________
1- رجال الكاشي، ص172.
2- الأنوار البهية، ص91.
3- المكاسب للشيخ الأنصاري باب الولاية من قبل الجائر.
4- الجهشياري.
5- المكاسب للأنصاري.
6- أخبار الدول، ص113.
7- تذكرة الخواص، ص359.
8- المناقب، ج2، ص381.
9- المقاتل، ص453.
10- بحار الأنوار.
11- رجال النجاشي.
12- حياة الإمام موسى عليه السلام، باقر شريف القرشي، ج2، ص188.
13- حياة الإمام موسى عليه السلام ، القرشي، ص190.
14- الفصول المهمة، ص252.
15- راجع هذه التيارات الإلحادية في كتاب حياة الإمام موسى عليه السلام، للقرشي، ص126، وما بعدها.
16- الحضارة الإسلامية، ج 1، ص127.
17- عيون أخبار الرضا.
18- الفصول المهمة، ص252.
19- دائرة المعارف دور الأئمة، للصدر، ص96.
20- البداية والنهاية، ج10، ص183، وتاريخ بغداد.
21- ابن خلكان، ج2، ص173، وتاريخ بغداد.