الدور الزينبي بعد واقعة كربلاء
عند استشهاد الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وصحبه الأبرار سلام الله عليهم، بـدأ دور السيدة زيـنب عليها السلام وهو دور خطير ومهمة شاقة، ويمكننا رصد مهمتين أساسيتين تنهض بهما عقيلة الطـالبيين:
المـهمة الأولى
تـحريك روح الثورة والتمرد في نفوس المجتمع المسلم، وهذا ما سعت إليه السيدة زينب في الكوفة، فـمن المـعلوم أن المـجتمع الكوفي لا يحتاج إلى تعريف بالحسين عليه السلام وأهدافه، ولم ينقصهم الوعي بحقيقة الحكم الأموي، وإنما كانوا يعيشون خللا نفسيا تمثل بانعدام الإرادة وعدم الاستعداد للتضحية، وكان هذا المجتمع بحاجة إلى هزة نفسية لمعالجة هذا الخـلل فكانت الدماء الطهر على أرض الطفوف، فيما تولت العقيلة تفعيل هذه الدماء في نفوس المـجتمع الكوفي، ولذلك اعتمدت في خطابها إلى المجتمع الكوفي اللغـة المـشحونة عـاطفيا من أجل تأجيج روح الندم لديهم لخذلانهم الحـسين ومـحاولة التكفير عن الشعور بالإثم عبر التمرد والثورة والتضحية بهذه النفوس التي عزت عـن نـصرة الحسين عليه السلام، ولذلك خاطبتهم العقيلة قائلة: «يا أهل الكوفة! ويا أهـل الخـتل، والخذل والغدر! أتبكون؟ فلا رقأت الدمعة ولا هدأت الرنـة، إنـما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا…«
ونلاحظ هنا اسـتخدام مـوفق للمثل القرآني الذي يعمق روح الندم لدى هؤلاء المـخاطبين، وتمضي مخاطبة المجتمع الكـوفي «ألا سـاء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط اللّه عليكم وفي العذاب أنتم خالدون، أتبكون وتنتحبون إي واللّه فابكوا كثيرا واضحكوا قليلا، فلقد ذهـبتم بـعارها وشنارها، و لن ترحضوها بغسل بعدها أبـدا وأنّى تـرحضون قتل سليل خـاتم الأنـبياء وسيد شباب أهل الجـنة ومـلاذ خيرتكم ومفزع نازلتكم،… أتدرون أي كبد لرسول اللّه فريتم، وأي دم له سفكتم، وأي كريمة له أبرزتم، وأي حريم له أصبتم؟ وأي حـرمة له انتهكتم؟ لقد جـئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه، وتـنشق الأرض، وتخر الجـبال هـدّا …«
المـهمة الثانية وهي المهمة الفكرية
لعلّ أحد الأهداف المهمة لثورة الإمام الحسين عليه السلام هو الهدف الفكري المتمثل بتصحيح الخلل الفكري الذي يعيشه المسلمون آنذاك حيث كانوا لا يميزون بين الحاكم الإسلامي والحاكم المنحرف عن الإسلام وإن كان يحكم باسمه، ولذلك يدينون بالطاعة للجميع دون تمييز ويرون ذلك تطبيقا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}.(النساء/59)
وقد مكن هذا الخلل الحكام المنحرفين من الحكم بـاسم الإسلام و محاربة الإسلام بـاسمه، وكان يمكن لهذا الخلل – لولا ثورة الحسين عليه السلام – أن يقضي على الإسلام كله حيث سيشوهه الحكام مع تعاقب السنين، ولكن ثورة الحسين عليه السلام استطاعت أن تضع حدا فاصلا بين الإسلام والحكومات المنحرفة، وقـد ركز خطاب أهل بيت الرسالة الذين أخذوا أسارى إلى الشام من أجل تحقيق هذا الهدف من خلال تعريف المجتمع الموجه إليه الخطاب – وهو المجتمع الشامي هنا – على مكانة الحسين و التعريف بـه مـن أجل كشف الحقيقة التي أراد يزيد - وكل حاكم منحرف – طمسها، فنرى السيدة زينب عليها السلام تخاطب يزيدا في مجلسه قائلة: "أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك و إماءك، وسوقك بنات رسول اللّه سبايا، قـد هـتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني و الشريف، ليس معهن مـن حـماتهن حمي ولا من رجالهن ولي، وكيف يرتجى مـراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء".
وتمضي قائلة: "ولتردن على رسول اللّه صلى الله عليه وآله بما تحملت من سفك دماء ذريته وانتهكت من حـرمته في عترته ولحمته، حيث يجمع اللّه شـملهم، ويلم شعثهم ويأخذ بحقهم، {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}".
"فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فو اللّه لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهـل رأيك إلا فند وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادى المنادي ألا لعنة اللّه على الظالمين".
عـندما نعود إلى خطاب العقيلة ونتأملها على ضوء العلم الحديث، نجد أن هناك اختلافا في مضمون الخطاب الموجه إلى المجتمع الكوفي عن ذاك الموجه إلى المجتمع الشامي لاختلاف المجتمعين، فالمجتمع الشـامي يجهل هؤلاء الأسارى و يرى فيهم خوارج حتى أن أحدهم يطلب من يزيد جارية من هؤلاء السبايا و يرى في قتل الحسين يوم ظفر وانتصار ليزيد، حتى أن الصحابي سهل بن سعد الساعدي قال عندما رأى مظاهر الشام هـل إن لأهل الشام عيداً لا نعرفه؟ وهذه نتائج طبيعية للإعلام الأموي الذي تعرض له هذا المجتمع، ولذلك نرى في خطاب زينب عليها السلام كما في خطاب الإمام السجاد عليه السلام تركيزاً على التعريف بهم و مدى ارتباطهم بالرسول صلى الله عليه وآله وفضحاً ليزيد وكيف إنه ابن الطلقاء الذين واصلوا حربهم للرسالة حتى فتح مكة فأطلقهم النبي صلى الله عليه وآله.
أما المجتمع الكوفي فلا يحتاج إلى ما يحتاجه المجتمع الشامي، ولذلك تركز خطاب العقيلة لأهل الكوفة على موضوع خذلانهم للإمـام الحسين عليه السلام، وكيف أنهم انتكسوا في منتصف الطريق كالتي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا.
كما أن التأثير الذي أرادت إحداثه الحوراء عند أهل الشام يختلف عنه عند أهل الكوفة، فالمجتمع الشامي لم ترد زينب تحريكه وإنما أرادت توعيته من أجل فضح الخطة الإعلامية ليزيد التي شوهت الثورة الحسينية، أما المجتمع الكوفي فأرادت العقيلة تحريكه ولذلك اعتمدت شحنه عاطفيا، وقد تحقق لها ما أرادت.
يقول أحد الرواة واصفا أهل الكوفة بعد خطبة السيدة زينب: (فو الله لقد رأيت الناس يومئذ حيارى، كأنهم سكارى، يبكون ويحزنون ويتفجعون ويتأسفون وقد وضعوا أيديهم في أفواهه).
لقد أدت العقيلة رسالتها على أكمل وجه لا في الكوفة والشام فحسب وإنما بعد رجوعها إلى مدينة مجدّها حتى أنها أصبحت مصدر خطر كبير على السلطات الأموية مما دفع الأخيرة إلى نفيها من بلدها – ولعلها أول امرأة تنفى لأسباب سياسية – ووضعها على مقربة من عاصمة الحكم الأموي لتكون تحت الرقابة المركزية المشددة حتى مضت آخر سني حياتها الشريفة لتدفن في جوار عاصمة الجور الأموي.
ليس باستطاعة أية امرأة أن تقوم بالدور الذي قامت به الحوراء، والمهمة التي أوكلها إليها الإمام الحسين عليه السلام، فالحوراء كانت تمتلك من المؤهلات والاعداد الفكري والنفسي من أجل أن تنهض بالعبء الرسالي الكبير، ولذلك قيّمها الإمام السجاد عليه السلام بقوله: «إن عمتي زينب عالمة غير معلمة وفقيهة غير مفقهة«.