فإِنِّي أُحذِّرُكُمُ الدُّنْيا
من كلام للإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) يحذّر من الدنيا ومفاتنها
"أمّا بعْدُ فإِنِّي أُحذِّرُكُمُ الدُّنْيا، فإِنّها حُلْوةٌ خضِرةٌ، حُفّتْ بِالشّهواتِ، وتحبّبتْ بِالْعاجِلةِ، وراقتْ بِالْقلِيلِ، وتحلّتْ بِالآمالِ، وتزيّنتْ بِالْغُرُورِ.
لا تدُومُ حبْرتُها (نعمتها)، ولا تُؤمنُ فجْعتُها (مصائبها). غرّارةٌ ضرّارةٌ، حائِلةٌ زائِلةٌ، نافِدةٌ بائِدةٌ، أكّالةٌ غوّالةٌ.
لا تعْدُو إِذا تناهتْ إِلى أُمْنِيّةِ أهْلِ الرّغْبةِ فِيها والرِّضاءِ بِها - أنْ تكُون كما قال اللهُ تعالى: ﴿كماء أنْزلْناهُ مِن السّماءِ فاخْتلط بِهِ نباتُ الاْرْض فأصْبح هشِيماً تذْرُوهُ الرِّياحُ وكان اللهُ على كُلِّ شيْء مُقْتدِراً﴾1.لمْ يكُنِ امْرُؤٌ مِنْها فِي حبْرة إِلاّ أعْقبتْهُ بعْدها عبْرةً، ولمْ يلْق في سرّائِها بطْناً، إِلاّ منحتْهُ مِنْ ضرّائِها ظهْراً (سرعة انقلاب حالها)، ولمْ تطُلّهُ فِيها دِيمةُ (مطر يدوم في سكون) رخاء، إِلاّ هتنتْ (انصبت) عليهِ مُزْنةُ بلاء (القطعة من السحاب)!
وحرِيٌّ إِذا أصْبحتْ لهُ مُنْتصِرةً أنْ تُمْسِي لهُ مُتنكِّرةً، وإِنْ جانِبٌ مِنْها اعْذوْذب واحْلوْلى، أمرّ مِنْها جانِبٌ فأوْبى (المرض)! لا ينالُ امْرُؤٌ مِنْ غضارتِها رغباً، إِلاّ أرْهقتْهُ مِنْ نوائِبِها تعباً! ولا يُمْسِي مِنْها فِي جناحِ أمْن، إِلاّ أصْبح قوادِمِ خوْف (ريش في مقدم الجناح يساعد على الطيران)!
غرّارةٌ، غُرُورٌ ما فِيها، فانِيةٌ، فان منْ عليْها، لا خيْر فِي شيْء مِنْ أزْوادِها (الزاد) إِلاّ التّقْوى. منْ أقلّ مِنْها اسْتكْثر مِمّا يُؤمِنُهُ ! ومنِ اسْتكْثر مِنْها اسْتكْثر مِمّا يُوبِقُهُ، وزال عمّا قلِيل عنْهُ. كمْ مِنْ واثِق بِها قدْ فجعتْهُ، وذِي طُمأْنِينة قدْ صرعتْهُ، وذِي اُبّهة قدْ جعلتْهُ حقِيراً، وذِي نخْوة قدْ ردّتْهُ ذلِيلاً!
سُلْطانُها دُوّلٌ (لا يدوم لأحد)، وعيْشُها رنِقٌ (متكدّر)، وعذْبُها أُجاجٌ (شديد الملوحة)، وحُلْوُها صبِرٌ (مُر)، وغِذاؤُها سِمامٌ (جمع سم)،وأسْبابُها رِمامٌ (بالية)!
حيُّها بِعرض موْت، وصحِيحُها بِعرض سُقْم! مُلْكُها مسْلُوبٌ، وعزِيزُها مغْلُوبٌ، وموْفُورُها منْكُوبٌ، وجارُها محْرُوبٌ (مسلوب المال)! ألسْتُمْ فِي مساكِنِ منْ كان قبْلكُمْ أطْول أعْماراً، وأبْقى آثاراً، وأبْعد آمالاً، وأعدّ عدِيداً، وأكْثف جُنُوداً!
تعبّدُوا لِلدُّنْيا أيّ تعبُّد، وآثرُوها أيّ إِيثار، ثُمّ ظعنُوا (ارتحلوا) عنْها بِغيْرِ زاد مُبلِّغ ولا ظهْر قاطِع (راحلة يقطعون بها الطريق). فهلْ بلغكُمْ أنّ الدُّنْيا سختْ لهُمْ نفْساً بِفِدْية، أوْ أعانتْهُمْ بِمعُونة، أوْ أحْسنتْ لهُمْ صُحْبةً؟ بلْ أرْهقتْهُمْ بِالْقوادِحِ، وأوْهنتْهُمْ بِالْقوارِعِ (الدواهي)، وضعْضعتْهُمْ بِالنّوائِبِ، وعفّرتْهُمْ لِلْمناخِرِ، ووطِئتْهُمْ بِالْمناسِمِ (المنسم: خف البعير)، وأعانتْ عليْهِمْ ريْب الْمنُونِ.
فقدْ رأيْتُمْ تنكُّرها لِمنْ دان لها، وآثرها وأخْلد إِليْها، حتّى ظعنُوا عنْها لِفِراقِ الأبدِ. وهلْ زوّدتْهُمْ إِلاّ السّغب، أوْ أحلّتْهُمْ إِلاّ الضّنْك، أوْ نوّرتْ لهُمْ إِلاّ الظُّلمة، أوْ أعْقبتْهُمْ إِلاّ النّدامة! أفهذِهِ تُؤْثِرُون، أمْ إِليْها تطْمئِنُّون، أمْ عليْها تحْرِصُون؟ فبِئْستِ الدّارُ لِمنْ لمْ يتّهِمْها، ولمْ يكُنْ فِيها على وجل مِنْها!
فاعْلمُوا وأنْتُمْ تعْلمُون بِأنّكُمْ تارِكُوها وظاعِنُون عنْها، واتّعِظُوا فِيها بِالّذِين قالُوا: منْ أشدُّ مِنّا قُوّةً: حُمِلُوا إِلى قُبُورِهِمْ فـلا يُدْعوْن رُكْباناً، وأُنْزِلُوا الاْجْداث (القبور) فـلا يُدْعوْن ضِيفاناً (الضيف)، وجُعِل لهُمْ مِن الصّفِيحِ أجْنانٌ، ومِن التُّرابِ أكْفانٌ ومِن الرُّفاتِ جِيرانٌ، فهُمْ جِيرةٌ لا يُجِيبُون داعِياً، ولا يمْنعُون ضيْماً، ولا يُبالُون منْدبةً (الندب: ذكر محاسن الميت).
إِنْ جِيدُوا(أمطروا) لمْ يفْرحُوا، وإِنْ قُحِطُوا لمْ يقْنطُوا. جمِيعٌ وهُمْ آحادٌ، وجِيرةٌ وهُمْ أبْعادٌ.
مُتدانُون لا يتزاورُون، وقرِيبُون لا يتقاربُون. حُلماءُ قدْ ذهبتْ أضْغانُهُمْ، وجُهلاءُ قدْ ماتتْ أحْقادُهُمْ. لا يُخْشى فجْعُهُمْ، ولا يُرْجى دفْعُهُمْ، اسْتبْدلُوا بِظهْرِ الاْرْض بطْناً، وبِالسّعةِ ضِيقاً، وبِالاْهْلِ غُرْبةً، وبِالنُّورِ ظُلمةً، فجاؤُوها كما فارقُوها، حُفاةً عُراةً، قدْ ظعنُوا عنْها بِأعْمالِهِمْ إِلى الْحياةِ الْدّائِمةِ والدّارِ الْباقِيةِ، كما قال سُبْحانهُ: ﴿كما بدأْنا أوّل خلْق نُعِيدُهُ وعْداً عليْنا إِنّا كُنّا فاعِلِين﴾2.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الكهف:45
2- الأنبياء:104
مهدي
1437قراءة
2016-01-20 21:11:17
doha tarhini |