كيف يجب أن نعامل الآخرين؟
حينما نذهب إلى الحدائق، فنتمتع بأجوائها المنعشة، لا بدّ وأن نعبر عن فرحتنا بها، في كلمات من المديح. وحينما تشرق علينا الشمس، بدفئها الهادي، في يوم من أيام الشتاء، لا بدّ وأن نعتبر عن ارتياحنا لها، بكلمات من المديح...
وهكذا، يتلقى كل ما في الطبيعة ألواناً من مدائح الناس وثنائهم، في الوقت الذي لا تفهم الطبيعة الخرساء شيئاً مما نقول، ولا نفرح بها، ولا يسبب مدحنا لها زيادة في العطاء، ولا ذمنا لها نقصاً فيه...
ولكن..
ماذا عن تعاملنا مع البشر؟..
هل تحسن مدح ما فيهم من المحاسن، كما نحسن عادة ذم ما فيهم من نقائص؟
وهل نعبر عن تقديرنا لهم فيما يقدمون لنا من عطاء، في الوقت الذي نعرف جميعاً أن هذا المديح يسبب لهم الزيادة في الخير؟
لا شكّ أن لكل إنسان في هذه الحياة، حظاً من المحاسن، كما أن له نصيباً من العطاء، وقدراً من الخير، وحتى أسوأ الناس، يمتلك بعضاً من الجوانب الإيجابية.
فالإنسان مخلوق يقبع في داخله "ملاك" و"شيطان" فتارة يغلب ملاكه على شيطانه، وأخرى يغلب شيطانه على ملاكه..
ونحن مكلفون بتقدير ما في الناس من صفات حسنة، حتى ولو كانت بمقدار مثقال ذرة.. أليست تلك طريقة الله تعالى مع الناس؟..
"فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ"
وفي الحقيقة فإنّ محاسن الناس، هي عطاء الله لهم، ولذلك فإنّ تقديرنا لهذه المحاسن هو تقدير الله الذي منحها.. كما أن مديحنا لكل ما في الطبيعة من جمال، هو مديح للخالق الذي وهب كل ذلك للإنسان..
ومن هنا، فقد ربط الله قبول شكر الإنسان له على كل خير، بشرط أن يشمل هذا الشكر كل مخلوق كان وسيطاً في ذلك الخير...
يقول الحديث الشريف: "من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق".
نحن نعرف جيّداً كيف نعاتب الآخرين على أخطائهم، ولسنا بحاجة إلى من يعلمنا ذلك. يكفي أن نرى خطأ حتى نسارع إلى العتاب عليه، والتحدّث ضد من ارتكبه، خاصة وأن في العتاب نوعاً من الغرور والأنانية.
من هنا فنحن بحاجة إلى أن نتعلم "فن التقدير"، ونتدرب عليه، ونمارسه في حياتنا اليومية...
يقول الإمام علي(ع) لمالك الأشتر حين ولاّه على مصر: "ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء".
وهكذا فإنّ الإمام يأمره، أن لا يمرّ على إحسان الناس مرور الكرام، كما لا يمر على إساءة الناس مرور الكرام، فواجب الحاكم العادل ليس هو "العقاب" على السيئات فحسب، بل هو "التشجيع" على الحسنات قبل كل شيء.
ثم إنّنا كثيراً، ما نمدح جمال الطبيعة، فنتغنى بزرقة البحر، وسحر الغروب، وروعة الشروق، وكلها أمور لا اختيار فيها لهذه الأشياء، ولكننا ننسى "الشكر" و"الحمد".. ننسى أن علينا أن نشكر الإنسان، ولو على كلمة جميلة يقولها، أو عمل مفيد يصنعه، أو محاضرة قيمة يلقيها، أو كتاب هادف يؤلفه، أو تواضع خلوق يتصف به، أو أي عمل صالح يؤديه لنا..
بينما هذه أمور يقوم بها باختياره وهو بذلك يستحق المديح عليها، والشكر لها.
فالإنسان يجد أمامه دائماً طريق الخير، وطريق الشر، ومن الممكن أن يصبح "شيئاً مذكوراً" في أي من الطريقين هذين.. فإذا وجد التشجيع في طريق الخير سلك طريق الخير، وإذا وجد التشجيع في طريق الشر سلك طريق الشر.
المطلوب منا أن نشجع الآخرين على سلوك طريق الخير، عبر مدحهم إذا سلكوا هذا الطريق، وتقديم الشكر لهم إذا قدموا خدمة للجماهير.
وإذا لم نفعل ذلك، فسوف يوجد آخرون، يشجعون الناس على سلوك طريق الشر، عبر التقدير عنهم إذا فعلوا ذلك.
إنّك لتجد كثيراً من الناس يصيبهم المرض إذا عجزوا عن اكتساب عطف الناس عليهم، واهتمامهم بهم، بل إنّ كثيراً من أسباب الجنون تعود إلى أن مرضى العقول يحاولون أن يجدوا في أرض الأحلام ذلك الإحساس بالأهمية الذي افتقدوه في أرض الحقائق...
ولذلك قام بعض هؤلاء يسبغ على نفسه أهمية خاصة.. فيرفض أن يجيب أي نداء، إذا لم يذيل بصفة "صاحب الجلالة" أو "سيادة الزعيم" مثلاً..
لقد سئل أحد الناجحين في الحياة: ما هو سر نجاحك؟ فقال: "إنني أعتبر مقدرتي على بث الحماسة في نفوس الناس هي أعظم ما أمتلك، وسبيلي إلى ذلك هيّن ميسور، فإنّي أجزل لهم الثناء، والتقدير، وأسرف في التشجيع، فأنا لا أفتش قط عن أخطاء أحد، فليس القتل لروح المرء المعنوية من النقد الذي يوجهه إليه ممن هم أعلى منه درجة".
ثم إنّ تقدير الآخرين، ومدح ما فيهم من محاسن يعطيهم الأمل، ويشيع فيهم السعادة، فلماذا نبخل عليهم بذلك، في الوقت الذي لا يكلفنا هذا الأمر، غير تحريك اللسان لبضع ثوان؟
يقول رسول الله(ص): "خير إخوتك من ذكر إحسانك إليك".
فإنّ أفضل الإخوان من يذكر الإحسان في الناس ويقدره في أصدقائه..
ويقول الإمام علي(ع): "الثناء بأكثر من الاستحقاق ملق، والتقصير عن الاستحقاق عيّ أوحسد".
وهكذا فهنالك تقدير، وهنالك تملق، والمطلوب هو، التقدير وليس التملق.
والفرق بين التملّق والتقدير هو أن التملق: أن تمدح الطرف الآخر بما ليس فيه، وهذا مكروه، وإذا فعلت ذلك فإنّك. في الواقع تدفعه إلى شيء غير محمود. فيتعلم أن يسرق جهود الآخرين، وأن يكذب على الناس ويدجل عليهم، ويتظاهر بما ليس فيه، وكلها صفات سيئة لا حسنة، فالملق غير التقدير فأن تمدح إنساناً بما فيه، هو أداء لحقه، بينما مدحه بما ليس فيه هو الملق الحرام.. ويكلمه إن التقدير نقي خالص والتملق مغشوش.. التقدير يصدر عن القلب، والملق يصدر عن اللسان، التقدير مجرد عن الأنانية، والملق قطعة من الأنانية..
التقدير من أجل الآخرين والملق من أجل الحظوة..
وفي الحقيقة هناك طريقتان لمحاولة دفع الآخرين إلى إنجاز الأعمال:
الطريقة الأولى: طريقة إصدار الأوامر: ومتابعتها معهم وتوجيه اللوم لهم إذا لم ينجزوا شيئاً.
الطريقة الثانية: أن تخلق في الطرف الآخر الرغبة في العمل، عبر تشجيعه عليه، ومدح أعماله الصالحة، ومنحه التقدير.
والطريقة الأولى، هي الأصعب، والأقل إنجازاً، بينما الطريقة الثانية أسهل، وأكثر نفعاً، إلا أنّها بحاجة إلى أن تتعلمها وتتدرب عليها. بينما الطريقة الأولى هي غريزية وهي طريقة المخفقين جميعاً..
وهاكم قصة الخطيب الشهير في إيران الشيخ محمد تقي الفلسفي دليلاً على ذلك..
يقول الرجل: لا أتذكر أنني أخطأت في خطبة واحدة من خطبي، ولا أتذكر أنني تلكأت، أو تراجعت، أو نسيت ما أريد ذكره، ولا أتذكر أنني تهيبت المنبر في أي يوم.
والسبب في ذلك كلّه، ما تلقيته من تشجيع، وتقدير في المرة الأولى التي رقيت فيها المنبر.. وذلك قبل أربعين عاماً..
فقد حدث أن مجلساً انعقد في بيتنا العائلي، ودعي للمحاضرة فيه أحد الخطباء المعروفين، إلا أنّه تأخر عن الموعد المحدّد، وكنت أنا قد حفظت قصيدة شعرية، فرقيت المنبر وبدأت أقرأها، بيتاً بيتاً، وكان في المجلس أحد العلماء الكبار، فكنت كلما قرأت بيتاً رفع رأسه، وقال: أحسنت.. ولم أكن أتوقع في ذلك الوقت، مثل هذا التشجيع، فامتلأت ثقة بنفسي، وما أنهيت القصيدة حتى تلقيت مرات عديدة هذه الكلمة المشجعة..
وهكذا صنع التقدير واحداً من أقدر الرجال على الخطابة في اللغة الفارسية.
وعلى العكس من هذا.. هنالك من ينتقد كل عمل صالح، وكل إنجاز رائع، فهو ينظر إلى كل الأعمال بنظرة الخيالي، فلا يرى من الأعمال إلا الجوانب السلبية منها.
إن قتل المواهب، ليس أقل إجراماً من قتل الأفراد، وزهق الأرواح، وكذلك فإنّ إحياء المواهب هو الآخر ليس أقل ثواباً من إحياء النفوس.
ثم إنّ كلمة التقدير، لا شكّ وأنها تنخرط في مفهوم "الكلمة الطيبة" التي قال عنها الله تعالى:"... مَثَل كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ....".
كما أن كلمات النقد الجارحة، تنخرط في مفهوم "الكلمة الخبيثة" التي قال عنها: "وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ".
ترى أيهما أفضل أن نكون: شجرة طيبة في المجتمع، تؤتي أكلها كل حين، أم شجرة خبيثة، ما لها من قرار؟.
من كتاب كيف نكسب الأصدقاء؟، الشيخ هادي المدرسي
تنمية مجتمع
1473قراءة
2016-01-06 08:55:35
تنمية مجتمع |