دمعةٌ يتيمة
كان يجلس عند مفترق الطريق، حائراً ما يفعل، وأين يتّجه. سالت دمعته رُغماً عنه، ورضي أن يتلحّف ببرد الشّتاء كي لا تُذَلَّ نفسه في أعين النّاس. وفي ليلةٍ من ليالي الشتاء المثلجة، حين غدا السّقيع سيّد الموقف، حاول أن يجمع بعض جزيئات الحطب من بين الثلج المتراكم، علّه يشعل منها ناراً صغيرةً تدفئه، لكن حتّى تلك أبت إلا أن تكون برفقة الطّبيعة عليه، وكيف للنّار أن تشتعل بأجزاءٍ مبلّلة بثلج القلوب !
بقي أحمد مُمَسمَرٌ في مكانه، وكانت تلك اللّيلة أشدّ اللّيالي ظلماً وظلمةً في نظره، رغم كلّ الأيّام الّتي أمضاها في ربوع الطّريق. كان بانتظار خبر ينبئه برحيله عن هذه الدّنيا، أو بانتظار قلبٍ عطوفٍ على عيال الله، يدفئه بدفء قلبه العطوف. "ليتك يا أبي قبل رحيلك حضنتني لتُغنيني عن معطف الشّتاء، وليتك يا أمّي أدفأتني بحرارة قلبك من ذاك السّقيع"، قالها ودموعه تنهمر مع تلك الحرقة على وجهه الحزين، وغفت عيني أحمد والثلجُ قاسٍ لا يلين.
هو مجرّد كابوسٍ مزعج راودَ أحمد، حتّى نهض من فراشه مرتعباً. نعم، لا زال في منزله، ولا زال أمّه وأبوه على قيد الحياة. اطمأنّ أحمد وشكر الله على أنّ حالته تلك كانت مجرّد حلم. لكنّه توجّه مباشرةً لنافذة غرفته، يفتّش بين الثّلوج، "ليس قرب نافذتنا، ولا أسفل تلك الشجرة، ولا على الطّريق المحاذية. يا الله ! ليتني لم أهزأ به ! ليتني لم أتفوّه بكلماتي الجارحة تلك ! ليته كان هنا الآن كي أعتذر منه على خطئي بحقّه ! ليته يعود كي أصلح الموقف....". وأكملَ أحمد كلماته بقلبٍ منكسر، ودمعٍ منهمرٍ مهمهماً "ليتني فكّرت كيف ستكون حالته في هذه الليلة، ليته يعود، ليته يعود...".
وفي هذه الأثناء، تطرّقت عيني أحمد ناحية بابهم الزّجاجي، فلمح خيالاً زاوية الباب، تهيّأ له أنّه ذاك الفقير الّذي هزئ به ولم يجبه إلا بدمعته اليتيمة تلك، فأسرعَ ناحية الباب "الحمد لله أنّه لا زال هنا..الحمد لله".
فتَحَ أحمد الباب وإذا به يراه متلحّفاً برجليه، وبقايا ثوبه المبلّل، والثلج يتساقط، رفعَ رأسه وإذا بشفتيه ترتجفان من شدّة السّقيع.
- "لِمَ لا زلتَ جالس هنا في هذا الطقس البارد؟" سأله أحمد.
- "لأنّي فقدت بعد رحيل أبي وأمّي منزل الحنان" أجابه الصّبيّ.
الآن عرف أحمد حالة ذاك الصّبيّ، كانت حالته تشبه حال أحمد في الحلم. الآن شعَرَ بقيمة العون لليتيم، ذاك اليتيم الّذي فقد العزّ حين رحل أبويه عن الدّنيا، فاختار ألا يمدّ يده لأحد، فقط كان بانتظار رحمةٍ من قلبٍ رحيم، أو يدٍ تمتدّ إليه لتداوي جرحه الأليم.
بات باستطاعة أحمد الآن أن يصلح خطأه، ويعتذر من الصّبيّ، ليُدخِلَه منزلهم علّه يحتضن ناره الملتهبة في أحشائه، ويطفئ من داخله حرّ السّقيع !!
كُن عَوناً للفقير واليتيم، ولا تحكم على من شرّدته الأيّام، أو غرست فيه قساوة الدّنيا جرحاً أليم !
تنمية مجتمع
1147قراءة
2016-01-06 13:37:21
تنمية مجتمع |