الدرس السادس: المعيار الفاصل بين التوحيد والشرك
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يحدّد المعيار الفاصل بين التوحيد والشرك بالله (عز وجل).
2- يفرِّق بين الولاية التكوينيّة والولاية التشريعيّة.
3- يستنتج أن الاعتقاد بالولاية التشريعيّة للنبي والأئمة (صلوات الله عليهم) من شؤون التوحيد.
تمهيد
من الأمور التي ينبغي التوقّف عندها هو المقصود الحقيقي من التوحيد، فهل التوحيد يعني إنكار أيّ تأثير لكلّ موجود سوى الله؟ وإذا قلنا بتأثير لموجود ما فهل نصبح مشركين؟ أم أنّ المقصود من التوحيد شيء آخر؟.
عندما نرجع إلى القرآن نستفتيه نجد أنّه ينسب حتّى الخلق والتدبير وإحياء الموتى لغير الله، ولكنّها جميعًا متوقّفة على إذنه تعالى، وهذا ما صرّحت به الآيات الواردة بحقّ النبي عيسى عليه السلام، وقد نُسب إليه بعض هذه الأمور منها: الخلق، يقول الله تعالى: ﴿...وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي...﴾1.
وقال تعالى: ﴿وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ﴾2.
فالقرآن يصرّح بأنّ نبي الله عيسى عليه السلام يخلق: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾3، وهو يحيي الموتى ويشفي المرضى مع أنّه كان عبدًا من عباد الله، وهذا الأمر هو الذي دفع بعض أتباعه للغلوّ فيه واعتباره ابن الله، بل قالوا عنه: إنّه هو الله بنفسه. والقرآن الكريم يقاوم هذه العقيدة مقاومة شديدة حيث يؤكّد على التوحيد بقوله تعالى: ﴿فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾4.
وينهى عن التثليث بقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾5.
ويعتبره كفرًا بقوله تعالى: ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾6.
وفي نفس الوقت فهو يثبت ويؤكّد أنّ عيسى عليه السلام كان يؤدّي مثل هذه الأعمال، ولكنّه تعالى يضيف في كلّ جملة كلمة "بإذني"، ولا يكتفي بإضافتها في آخر الآية، وهذا يعني أنّ الاعتقاد بصدور مثل هذه الأمور من الإنسان أو من أيّ مخلوق آخر لا يؤدّي إلى الشرك، ما لم يعتقد بأنّ المخلوق يقوم بهذه الأعمال "مستقلاً" غير محتاج فيها إلى إذن من الله، وأمّا إذا اعتقد بأنّ الله سبحانه هو الذي يمنح المخلوق مثل هذه القدرة، بحيث يستطيع التصرّف في العالم الطبيعي ويوجد بعض الظواهر عن غير طريق القوانين الطبيعية فإنّ هذا الاعتقاد ليس شركًا بل هو عين التوحيد، وحتّى أنّ إنكاره يصبح إنكارًا للقرآن ولرسالة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وللتوحيد بمعناه الكامل.
الولاية التكوينيّة
بعدما أثبتنا إمكانيّة صدور إحياء الموتى وشفاء المرضى - بل أثبتنا وقوعها- من غير الله، ولكن بإذن الله، وهو ما نسمّيه في عرفنا بـ "الولاية التكوينيّة"، نواجه هذا السؤال:
هل للنبيّ الكريم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الطاهرين عليهم السلام ولاية تكوينيّة أم لا؟
ظنّ بعض أهل السنة أنّ مثل هذا الاعتقاد شرك بالله، فإذا اعتقد شخص بأنّ للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولاية تكوينيّة بمعنى أنّه يستطيع إحياء الموتى أو شفاء المرضى فقد أشرك بالله، لأنّ هذه الأمور من شأن الله فقط. وتعدّ هذه الفئة سائر الطوائف الإسلاميّة التي تشكّل أكثر من 95% من المسلمين تعدّها مشركة، ومن جملتها الشيعة الذين يعتقدون بالولاية التكوينيّة للنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وتعود هذه الاتّهامات في الواقع إلى الجهل (هذا إذا لم تكن مغرضة وذات دوافع سياسيّة)، فمن يقرأ القرآن ويفهم هذه الآيات... كيف يسمح لنفسه بأنْ يعدّ هذه العقائد من الشرك؟
إنّ القرآن نفسه يقول: كان عيسى عليه السلام يخلق ويحيي الموتى ويشفي المرضى، فكيف يصبح هذا القول شركًا؟!
وقد يخرج بعض ليقول: إنّ ما ذُكر في القرآن لا يكون شركًا وأمّا الذي لم ينصّ عليه القرآن فيكون شركًا.
وهذا القول واضح البطلان؛ لأنّ أيّ مفهوم إذا كان شركًا فهو شرك وإن لم يذكره القرآن. فلو فرضنا ـ وفرض المحال ليس محالاًـ أنّ القرآن قال: يوجد إلهان أو أنّ هناك خالقين للعالم، أيصبح هذا توحيدًا؟!
وهل حقيقة التوحيد يمكن تغييرها بالقول والكلام؟
فالأمر إنْ كان شركًا يبقى كما هو سواءً أذكر ذلك القرآن أم لم يذكره - بل نقول إنّه يستحيل أنْ يذكره القرآن - وما يكون توحيدًا يظلّ توحيدًا تعرّض له القرآن أم لم يتعرّض له.
فكيف يصحّ لنا أنْ ندّعي أنّه ما دام القرآن يقول لعيسى عليه السلام: أنت تخلق وتحيي الموتى وتشفي المرضى فهذا "توحيد"، لكنّه في الوقت الذي لم يقل فيه ذلك لغيره يكون شركًا؟ وهل يعقل أنْ يكون الشيء نفسه شركًا وغير شرك من دون أن يحدث فيه أيّ تغير؟
الولاية التشريعيّة
ونظير هذا يقال بالنسبة للربوبيّة التشريعيّة، يعني عندما نقول: لا يحقّ لأحد سوى الله تعالى وضع القوانين وإصدار الأوامر والطاعة من دون سؤال، فليس معنى هذا أنّنا لا يجوز لنا أنْ نطيع أيّ أحد آخر بأيّ شكل من الأشكال، أو لا يحقّ لأيّ أحد إصدار الأوامر، كلّا، ليس هذا معناه، بل المقصود هنا أيضًا أنّ أيّ شخص لا يحقّ له أنْ يصدر الأوامر "مستقلاً" من ذات نفسه، إلّا إذا كان الله تعالى قد منحه هذا الحقّ، وتعود الطاعة لهذا الشخص في الواقع إلى طاعة الله، وجاء في القرآن الكريم: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ﴾7.
إذًا، فالطاعة التي تكون بإذن الله لا تتنافى مع التوحيد، بل هي من شؤون التوحيد. أمّا ما يتنافى مع الربوبيّة التشريعيّة فهو الاعتقاد بأنّ لأحد غير الله وفي عرضه حقّ التقنين، حيث يضع القوانين من دون اعتماد عليه تعالى، وتكون طاعته واجبة مثل طاعة الله. هذا شرك لا شكّ فيه. أمّا إذا قال أحد بأنّ الله سبحانه قد عيّن أشخاصًا لهم الحقّ في التدخّل في شؤون الناس، يسوسون أمورهم، يأمرون وينهون، وتجب على الناس الطاعة لهم، فهو ليس بشرك.
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ﴾8.
فهو يأمر بطاعة الرسول، ولا يكتفي بهذا الحدّ بل يوجب طاعة خلفاء الرسول من المعصومين: ﴿أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾9.
وحسب ما نقل من تفسير عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّ "أولي الأمر" هم المعصومون الاثنا عشر عليهم السلام، ومن الطبيعيّ أنْ تكون طاعة الرسول وأولي الأمر شاملة للمنصوبين من قبل النبيّ أو الإمام بصورة خاصّة أو بشكل عامّ. عندما كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يبعث واليًا إلى منطقة معينة فإنّه كان يجب على الناس طاعة هذا الوالي، لأنّها في الحقيقة طاعة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. وكذا الطاعة للولي الفقيه المنصوب من قبل الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف لتسيير شؤون الناس في عصر الغيبة، وهذه في الواقع طاعة لإمام العصر التي هي طاعة لله: "فإنّهم حجتي عليكم وأنا حجّة الله"10.
إذًا، الاعتقاد بالولاية التشريعيّة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليه السلام ومن ينصبه هذان، ومن جملتهم الفقهاء الكبار في عصر غيبة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، ليس فقط لا يتنافى مع التوحيد، بل هو من شؤون التوحيد، وهذا يعني أنّ الطاعة لله عزّ وجلّ تشمل الطاعة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنّه تعالى هو الذي أمر بطاعة الرسول، وهكذا... حتّى نصل إلى الفقهاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة المائدة، الآية 110.
2- سورة آل عمران، الآية 49.
3- سورة المائدة، الآية 110.
4- سورة الحج، الآية 34.
5- سورة النساء، الآية 171.
6- سورة المائدة، الآيتان 17 و72.
7- سورة النساء، الآية 64.
8- سورة النساء، الآية 59 ـ سورة محمّد، الآية 33.
9- سورة النساء، الآية 59.
10- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج2، ص90.
برامج
1243قراءة
2021-04-02 12:27:19