شهادته المباركة
وقضى الإمام في مدينة جدّه صلى الله عليه وآله وسلم مسموماً شهيداً، قيل: دسّ إليه السمّ هشام بن عبد الملك1، وقيل: إبراهيم بن الوليد2، وقيل: إنّه مات مسموماً بسمّ دُسّ إليه في سرج، فركبه الإمام عليه السلام فنزل متورّماً.1
وكان الإمام يعلم بدنو أجله، فعن سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمّد عن أبيه أنّه قال: "قتل عليّ عليه السلام وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وقتل الحسين وهو ابن ثمان وخمسين سنة، ومات عليّ بن الحسين وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وأنا اليوم ابن ثمان وخمسين سنة"2.
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إنّ أبي عليه السلام استودعني ما هناك، فلمّا حضرته الوفاة قال: ادع لي شهوداً فدعوت له أربعة من قريش، فيهم نافع مولى عبد الله بن عمر فقال: اكتب، هذا ما أوصى به يعقوب بنيه ﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾، وأوصى محمّد بن عليّ إلى جعفر بن محمّد وأمره أن يكفّنه في برده الذي كان يصلّي فيه الجمعة، وأن يعمّمه بعمامته، وأن يربّع قبره، ويرفعه أربع أصابع، وأن يحلّ عنه أطماره عند دفنه، ثمّ قال للشهود: انصرفوا رحمكم الله، فقلت له: يا أبت- بعد ما انصرفوا- ما كان في هذا بأن تشهد عليه، فقال: يا بنيّ كرهت أن تغلب وأن يقال: إنّه لم يوص إليه، فأردت أن تكون لك الحجّة"3.
وعنه عليه السلام أيضاً قال: "كتب أبي في وصيّته أن أكفّنه في ثلاثة أثواب، أحدها رداء له حبرة كان يصلّي فيه يوم الجمعة وثوب آخر وقميص، فقلت لأبي: لم تكتب هذا؟ فقال: أخاف أن يغلبك الناس وإن قالوا: كفّنه في أربعة أو خمسة فلا تفعل، وعمّمني بعمامة، وليس تعدّ العمامة من الكفن، إنّما يعدّ ما يلفّ به الجسد"4.
وعنه عليه السلام أنّه قال: "كنت عند أبي في اليوم الذي قبض فيه أبي محمّد بن عليّ، فأوصاني بأشياء في غسله وفى كفنه وفى دخوله قبره، قال: قلت: يا أبتاه والله ما رأيت منذ اشتكيت أحسن هيئة منك اليوم، وما رأيت عليك أثر الموت، قال: يا بنيّ أما سمعت عليّ بن الحسين عليه السلام ناداني من وراء الجدران: يا محمّد، تعال عجِّل"5.
وعنه عليه السلام أيضاً أنّه أتى أبا جعفر بليلة قبض وهو يناجي، فأومأ إليه بيده أن تأخّر، فتأخّر حتّى فرغ من المناجاة، ثمّ أتاه فقال: "يا بنيّ، إنّ هذه الليلة التي أقبض فيها، وهي الليلة التي قبض فيها.
گله يبعد الروح يا باقي البقيّه اتجلّد يبعد الروح واسمع هالوصية
من بعد عيني لازم اتنصبوا عزيّه ونوحوا على العطشان ظامي ذابحينه
وأوصى أبو جعفرعليه السلام بثمانمائة درهم لمأتمه، وكان يرى ذلك
وا إماماه واسيّداه وا باقراه
فأخذ في تجهيزه ولده الصادق عليه السلام، وصلّى عليه، ودفنه بالبقيع إلى جنب أبيه2.
عليه صاحت الوادم فرد صيحه الصادق غسله او حطّه ابضريحه
بس جثة السبط ظلّت طريحه او بالخيل الصدر منّه تهشّم
لَمْ يَبْقَ ثَاوٍ بِالعَرَاءِ كَجَدِّهِ دَامٍ تُغَسِّلُهُ دِمَاءُ وَرِيدِ
قَدْ بُدِّدَتْ أَوْصالُهُ يا لَلْهُدَى بِشَبَا الصِّفَاحِ أَيَّما تَبْدِيدِ
ثمّ إنّه عليه السلام، أدار وجهه في أهل بيته وقال: "حفظكم الله، سدّدكم الله، الله خليفتي عليكم وكفى به خليفة"، ثمّ صار يؤدّي الشهادتين، (أشهد أن لا إله إلّا الله، وأشهد أنّ محمّداً رسول الله)، فغمّض عينيه، وقضى نحبه مسموماً..
في زيارته عليه السلام:
روي عن أبي محمّد الحسن بن عليّ العسكريّ عليه السلام أنّه قال: "من زار جعفراً وأباه لم يشتك عينه، ولم يصبه سقم، ولم يمت مبتلى".
وعن زيد الشحّام قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام ما لمن زار أحداً منكم؟ قال: "كمن زار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"6.
ويزار عليه السلام بما ورد في زيارة أئمّة البقيع عليهم السلام:
"السلام عليكم أئمّة الهدى، السلام عليكم أهل التقوى، السلام عليكم الحجّة على أهل الدنيا، السلام عليكم القوّام في البريّة بالقسط، السلام عليكم أهل الصفوة، السلام عليكم أهل النجوى، أشهد أنّكم قد بلّغتم ونصحتم وصبرتم في ذات الله، وكُذّبتم وأُسيء إليكم فغفرتم، وأشهد أنّكم الأئمّة الراشدون المهديّون، وأنّ طاعتكم مفروضة، وأنّ قولكم الصدق، وأنّكم دعوتم فلم تجابوا وأمرتم فلم تطاعوا، وأنّكم دعائم الدين وأركان الأرض، ولم تزالوا بعين الله ينسخكم في أصلاب كلّ مطهّر، وينقلكم من أرحام المطهّرات، لم تدنّسكم الجاهليّة الجهلاء، ولم تشرك فيكم فتن الأهواء، طبتم وطاب منشأكم، منَّ بكم علينا ديّان الدين، فجعلكم في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وجعل صلواتنا عليكم رحمة لنا، وكفّارة لذنوبنا، إذ اختاركم لنا، وطيّب خلقتنا بما منَّ به علينا من ولايتكم، فكنّا عنده مسمّين بعلمكم وبفضلكم، معترفين بتصديقنا إيّاكم، وهذا مقام من أسرف وأخطأ، واستكان وأقرّ بما جنى، ورجا بمقامه الخلاص، وأن يستنقذه بكم مستنقذ الهلكى من الردى. فكونوا لي شفعاء، فقد وفدت إليكم إذ رغب عنكم أهل الدنيا، واتخذوا آيات الله هزواً، واستكبروا عنها، يا من هو ذاكر لا يسهو، ودائم لا يلهو، ومحيط بكلّ شيء، لك المنّ بما وفّقتني، وعرّفتني بما ثبّتني عليه، إذ صدّ عنه عبادك، وجحدوا معرفتهم، واستخفّوا بحقّهم، ومالوا إلى سواهم، فكانت المنّة لك ومنك عليّ، مع أقوامٍ خصصتهم بما خصصتني به، فلك الحمد إذ كنت عندك في مقامي مذكوراً مكتوباً، ولا تحرمني ما رجوت ولا تخيّبني فيما دعوت".
وادع لنفسك بما أحببت ثمّ تصلّي ثمان ركعات إن شاء الله.
فإذا أردت الانصراف فقف على قبورهم وقل: "السلام عليكم أئمّة الهدى ورحمة الله وبركاته، أستودعكم الله وأقرأ عليكم السلام، آمنّا بالله وبالرسول وبما جئتم به ودللتم عليه، أللهم فاكتبنا مع الشاهدين".
ثمّ ادع الله كثيراً واسأله أن لا يجعله آخر العهد من زيارتهم .
1- القطب الراونديّ: الخرائج والجرائح ج 2 ص 604.
2- الأربليّ: كشف الغمّة في معرفة الأئمّة ج 2 ص 332.
3- الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 307.
4- المصدر السابق ج 3 ص 144.
5- الصفّار: بصائر الدرجات ص 502.
6- الطوسيّ 0: تهذيب الأحكام ج 6 ص 78 -79.