غيبة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف من أسرار الله عزّوجلّ
إنّ غَيبة الإمام المهدي عليه السّلام الغَيبة سُنّة فَعَلها بعضُ الأنبياء عليهم السّلام الغَيبة ليست بِدعةً في تاريخ البشريّة، فقد فعلها أنبياء الله تعالى وأولياؤه لمصلحةٍ وأسرارٍ نعلم بعضها، ولا نهتدي إلى بعضها الآخر.
• اتّفق علماء المسلمين أنّ الخضر عليه السّلام موجود منذ عهد النبيّ موسى عليه السّلام إلى وقتنا هذا، لا يعرف أحد مستقرّه، ولا نعرف عنه إلاّ ما جاء به القرآن من قصّته مع موسى عليه السّلام، وقد جمع الخضر بين الغَيبة والعُمر الطويل لمصلحةٍ اقتضاها التدبير الإلهيّ.
• هرب موسى عليه السّلام من وطنه، وتَخفّى مدّة من الزمن فلم يظفر به فرعون ورهطه، حتّى بعثه الله عزّوجلّ نبيّاً، فعاد إلى وطنه ودعاهم إلى عبادة الله تعالى، فعرفه الوليّ والعدوّ.
• وغاب يوسف عليه السّلام عن أبيه وإخوته، حتّى أنّ إخوته كانوا يدخلون عليه ويكلّمونه ويكلّمهم دون أن يعرفوا أنّه أخوهم، ثمّ كشف الله أمره بعد كرّ السنين والأعوام.
• وغاب أهل الكهف واستتروا عن قومهم فراراً، بدينهم، بل صرّح القرآن الكريم بأنّهم رقدوا في الكهف ثلاثمائة سنة وازدادوا تسعاً، تُقلّبهم يد القدرة الإلهيّة، وتتزاور عن كهفهم الشمس، ثمّ أحياهم الله الخبير بحكمته فعادوا إلى قومهم، وقصّتهم مشهورة في ذلك.
• وغاب عُزَير عن قومه بعد أن أماته الله تعالى مائة عام ـ كما في القرآن الكريم ـ ثمّ بعثه الله عزّوجلّ دون أن يتغيّر طعامه وشرابه!
• وغاب عيسى عليه السّلام عن قومه بعد أن رفعه الله تعالى إليه وقد كاد أعداؤه يقتلونه، ووعدت الروايات المتواترة عن النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله أنّه سينزل عند ظهور المهديّ عليه السّلام، فيُعينه في مهمّته الكبيرة في إرساء دعائم العدل الشامل.
• وشاءت المشيئة الإلهيّة لخاتم الأوصياء: المهديّ عليه السّلام أن يَغيب، حتّى يُظهره الله تعالى في اليوم الموعود، ليجري على يديه الوعد الذي قطعه للمؤمنين، بأنّه سيستخلفهم في الأرض ويُمكنّنّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلّنهم من بعد خوفهم أمناً.
سرّ الغيبة لقد غاب بعض أنبياء الله وأوليائه لمصلحة وأسرار نستبين بعضها، على ضوء ما جاء في القرآن الكريم والسنّة النبويّة الكريمة، ونجهل بعضها الآخر، فلماذا غاب الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف الذي ادّخره الله تعالى لمهمة نشر العدل والقسط في ربوع البسيطة ؟
استقراءً سريعاً للظروف التي سبقت غيبة الإمام عليه السّلام وعاصرتها من شأنه أن يجلّي لنا بعض العوامل التي أفضت إلى غيبته عليه السّلام:
أمعن بنو العبّاس منذ تولّيهم زمام السلطة في ظلم العلويين وإرهاقهم، ولاحقوهم وسجنوهم وقتلوهم تحت كلّ حجر ومدر، حتّى منعوا الناس من زيارة قبر الإمام الحسين عليه السّلام وهدموه وحرثوا أرضه وأجرَوا عليه الماء ليعفوا أثره، وفي ذلك يقول الشاعر: تاللهِ إن كانت أُميّةُ قد أتَتقَتلَ ابنِ بنتِ نبيِّها مظلوما فلقد أتاهُ بنو أبيهِ بمِثلهاهذا لَعَمرُكَ قبرُهُ مهدوما أسِفوا أن لا يكونوا شاركوافي قتلهِ..
فتتبّعوه رَميما!(1) حتّى أن المتوكّل أمر بسَلّ لسان العالِم الشهير ابن السِّكّيت ـ مؤدّب ولدَيه المعتزّ والمؤيّد ـ حين سأله: مَن أحبّ إليك: وَلَداي المعتزّ والمؤيد أم الحسن والحسين ؟ فقال ابن السكّيت: قنبر ـ يعني خادمَ أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام ـ خيرٌ منهما(2).
وبلغت حال العلويّين في المدينة من البؤس حدّاً لم يُعهد له مثيل، فقد روى أبو الفرج الإصفهاني أنّ القميص يومذاك يكون بين جماعة من العلويّات يُصلّين فيه الواحدة بعد الواحدة، ثمّ يرقّعنه ويجلسن على مغازلهنّ عواري حواسر(3)..
وفي مثل هذه الظروف العصيبة كانت ولادة الإمام المهدي عليه السّلام، وحياة أبيه الحسن العسكري عليه السّلام وهي ظروف وُضع فيها أئمّة أهل البيت وأشياعهم المؤمنون في الحصار السلطوي تحت الرقابة المشدّدة، ومخبرو السلطة يتلصّصون في كل مكان لنقل أخبار أهل البيت عليهم السّلام، ويترصّدون مولد الإمام الثاني عشر الموعود المنتظر.
روي عن الإمام الرضا عليه السّلام أنّه سُئل عن علّة غيبة الإمام المهدي عليه السّلام، فقال: لئلاّ يكون في عُنقه لأحد بيعة إذا قام بالسيف(4).
وروي عن الإمام الرضا عليه السّلام أنّه قيل له: إنّا نرجو أن تكون صاحبَ هذا الأمر...
فقال: ما مِنّا أحد اختلفت الكُتُب إليه وأُشير إليه بالأصابع وسُئل عن المسائل وحُملت إليه الأموال إلاّ اغتيل...
حتّى يبعث الله لهذا الأمر غلاماً منّا خفيّ المولد والمنشأ، غير خفيّ في نَسَبه(5).
جرت سُنّة الله تعالى في عباده في امتحانهم وابتلائهم، ليجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون، وغيبة الإمام عليه السّلام من موارد الامتحان، فلا يؤمن بها إلاّ من خَلُص إيمانُه وصدّق بما جاء عن رسول الله صلّى الله عليه وآله والأئمّة الهداة من آله عليهم السّلام.
روي عن النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله أنّه قال: أمَا واللهِ لَيغيبَنّ إمامُكم شيئاً من دهركم، ولتُمحّصُنّ ـ الحديث (6).
وروي عن الإمام الكاظم عليه السّلام أنّه قال: إذا فُقد الخامس من ولد السابع، فاللهَ اللهَ في أديانكم لا يزيلنّكم عنها، فإنّه لابدّ لصاحب هذا الأمر من غيبة حتّى يرجع عن هذا الأمر مَن كان يقول به، إنّما هي محنة من الله يمتحن الله بها خلْقَه ـ الحديث(7).
4 ـ الغيبة من أسرار الله عزّوجلّ
تبقى الحكمة في الغيبة من أسرار الله تعالى التي لم يُطْلع عليها أحداً من الخلق، وقد أبقى الله عزّوجلّ أشخاصاً في هذا العالم أحياءً أطول بكثير ممّا انقضى من حياة الإمام المهدي عليه السّلام، وذلك لحِكم وأسرار لا نهتدي إليها بأجمعها، لكننا ـ على كلّ حال ـ نؤمن بها إيماناً قطعيّاً.
ونحن ـ بصفتنا مسلمين ـ نؤمن بأنّ الله تعالى لا يفعل شيئاً عبثاً، ونؤمن أيضاً بمغيَّبَات كثيرة قامت عليها البراهين المتينة من العقل والنقل.
5. الانتفاع من الإمام في الغَيبة
ربّما يدور في الأذهان سؤال، وهو: ما مدى الانتفاع من وجود الإمام المهدي عليه السّلام إذا كان غائباً مستوراً ؟ وقد سُئل الإمام الصادق عليه السّلام: كيف ينتفع الناس بالحجّة الغائب المستور ؟ قال: كما ينتفعون بالشمس إذا سترها سحاب(8).
ومن الفوائد التي تتعلّق بالأمة من غيبة الإمام عليه السّلام: 1 ـ أنّ ظهور الإمام عليه السّلام لمّا وُصف بأنّه سيكون بغتةً، مَثَله كمَثَل الساعة، فإنّ ذلك يدعو كلّ مؤمن إلى الاستقامة على الشريعة، والالتزام بأوامرها ونواهيها.
2 ـ أنّ ذلك يدعو كلّ مؤمن إلى أن يكون في « حالة استعداد »، من حيث التهيّؤ للانضمام إلى جيش الإمام المهدي عليه السّلام، والاستعداد للتضحية في سبيل إقامة شرع الله تعالى وبسط حكومته الإلهيّة في كلّ الأرض.
3 ـ أنّ هذه الغيبة تحفّز المؤمن للنهوض بمسؤوليّته في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
4 ـ أنّ الاُمّة التي تعيش الاعتقاد بالمهدي الحيّ الموجود تعيش حالة الشعور بالكرامة والعزّة، فلا تذلّ لجبروت الطغاة، وتأنف من الذلّ والهوان، وتستصغِر قوى الاستكبار، مترقّبة لظهوره المظفّر في كلّ ساعة.
5 ـ تحصيل الثواب والأجر على الانتظار، وقد مرّ أنّ مَن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهليّة(9).
يُضاف إلى هذه الثمرات فوائد أخرى يكتسبها المعتقِد بظهور الإمام المهديّ عليه السّلام في آخرته، منها تصحيح اعتقاده بعدل الله تعالى ورأفته بهذه الأمّة التي لم يتركها الله سدىً ينتهبها اليأس ويفتك بها القنوط، دون أن يمدّ لها حبل الرجاء بظهور الدين على كلّ الأرض بقيادة الإمام المهديّ عليه السّلام.
تمهيد الأئمّة عليهم السّلام لغيبة الإمام المهدي عليه السّلام فقد مهّد الإمامان العسكريّان: عليّ بن محمّد الهادي، والحسن بن عليّ العسكري عليهما السّلام لغيبة الإمام المهدي عليه السّلام وتقليل وطء الصدمة التي قد تتعرّض لها قواعد الإمام الشعبيّة.
1 ـ تاريخ الخلفاء، للسيوطي 346.
2 ـ تاريخ الخلفاء 348.
الكامل في التاريخ، لابن الأثير 91:7.
3 ـ مقاتل الطالبيين 599.
4 ـ علل الشرائع، للشيخ الصدوق 245:1 حديث 6، كمال الدين 480:2 حديث 4.
5 ـ الغيبة، للنعماني 168 حديث 9.
6 ـ بحار الأنوار 7:53.
7 ـ الغيبة، للنعماني 154 حديث 11.
8 ـ كمال الدين، للصدوق 207:1 حديث 2.
ينابيع المودّة، للقندوزي 360:3 ـ 361 حديث 3، الباب 89.
فرائد السمطين، للحمويني 45:1 حديث 11.
9 ـ صحيح البخاري 13:5، باب الفتن.
صحيح مسلم 21:6 ـ 33 حديث 1849.
مسند أحمد 96:4 حديث 16434.
تدريب
1657قراءة
2022-03-16 15:53:30