1ـ فاطمة عليها السلام على فراش المرض
إنتشر خبر مرض السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام في المدينة، وسمع الناس به، ولم تكن تشكو السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام من داء عضال غير ماحدث...
كلّ هذه الاُمور ساهمت في انحراف صحتها وقعودها عن ممارسة أعمالها، وكان زوجها العطوف هو الذي يتولّى تمريضها، وتعينه على ذلك أسماء بنت عميس1، جاءت نسوة من أهل المدينة لعيادتها، وخطبت فيهنّ تلك الخطبة ـ التي ستمرّ عليك ـ وأعادت النسوة كلامها على رجالهن، فجاء الرجال يعتذرون، فما قبلت اعتذارهم فقالت عليها السلام: " إليكم عنّي لا عذر بعد تعذير ولا أمر بعد تقصير ".
لقد انتشر خبر استياء السيّدة فاطمة عليها السلام من السلطة ونقمتها على الذين آزروا الحزب الحاكم بسكوتهم وصمتهم، وتناسوا كلّ النصوص التي نزلت في آل الرسول، وأعرضوا عن كلّ حديث سمعوه من شفتي الرسول صلى الله عليه وآله في حقّ الزهراء عليها السلام وزوجها وولديها، وأخيراً تولَّد شيء من الوعي عند الناس، وعرفوا أنّهم مخطئون في دعم السلطة الحاكمة التي لم تعترف بشرعية الزعامة لآل رسول الله صلى الله عليه وآله، ولا تعير للحقّ اهتماماً ولا للمنطق موقعاً سوى القوّة وحدّ السيف.
2 ـ عيادة النساء للسيّدة فاطمة عليها السلام
لا نعلم بالضبط السبب الحقيقي والدافع الأصلي الذي دعا بنساء المهاجرين والأنصار لعيادة السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام، فهل كان ذلك بإيعاز من رجالهن ؟ وما الذي دعا اُولئك الرجال لإرسال نسائهم إلى دار السيّدة فاطمة عليها السلام ؟ وهل حصل الوعي عند النساء وشعرن بالتقصير بل الخذلان لبنت رسول الله صلى الله عليه وآله، فانتشر هذا الشعور بين النساء فحضرنَ للعيادة والمجاملة أو إرضاء لضمائرهن المتألمة ممّا حدث وجرى على سيدة النساء؟ أو كانت هناك أسباب سياسية فرضت عليهنّ ذلك، فحضرن لتلطيف الجوّ وتخفيف التوتّر للعلاقات بين بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وبين السلطة الحاكمة في ذلك اليوم؟ خاصة وإنّ الموقف الاعتزالي الذي اختارته السيّدة فاطمة عليها السلام لنفسها وانسحابها عن ذلك المجتمع لم يكن خالياً عن التأثير، بل كان عاملاً مساعداً لانتباه الناس، وبالأخص حين حمل الإمام أمير المؤمنين عليه السلام السيّدة فاطمة عليها السلام يطوف بها على بيوت الأنصار تستنجد بهم وتستنهضهم فلم تجد منهم الإسعاف بل وجدت منهم التخاذل2.
وعلى كلّ تقدير فلا يعلم أيضاً عدد النساء اللاّتي حضرن عند الزهراءعليها السلام وهي طريحة الفراش، ولكن يبدو أنّ العدد لم يكن قليلاً بل كان مما يُعبأ به.
3 ـ خطبتها الثانية
قال سُوَيْدُ بن غفلة: لمّا مرضت سيّدتنا فاطمة عليها السلام المَرْضة التي توفّيت فيها; اجتمعت اليها نساء المهاجرين والأنصار ليَعِدْنَها، فقلن لها: يا بنت رسول الله كيف أصبحت من علّتك ؟ فحمدت الله وصلّت على أبيها صلى الله عليه وآله ثم قالت: "أصبَحتُ واللهِ عائِفَةً3 لدنياكم، قالِية4 لرجالكم، لَفَظْتُهُم5 بَعدَ أنْ عَجَمْتهُمْ6 وَشَنَأْتُهُمْ7 بَعْدَ أن سَبَرْتُهُمْ8، فَقُبحاً9 لفُلولِ الحدِّ10واللَّعبِ بَعدَ الجِدِّ11، وقَرْعِ الصَّفاةِ12 13، وخَوْرِ القَناةِ14، وخَطَلِ الرّأيِ15 وزَلَلِ الأهواءِ 16. وَبِئسَ ما قَدَّمَتْ لهم أنفُسُهم أنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيهْمِ وفي العذابِ هُم خالدون. لا جَرَمَ17 والله18 لَقَدْ قَلَّدَتْهُم رِبْقَتها19 وَحَمَّلَتْهُم أَوْقَتَها 20 وَشَنْنتْ عَلَيْهِ غارتها21،فجَدعاً22 وعَقراً23 وسُحْقاً24 للقوم الظالمين....
قال سويد بن غفلة: فأعادت النساء قولها عليها السلام على رجالهن فجاء اليها قوم من وجوه المهاجرين والأنصار معتذرين، وقالوا: يا سيّدة النساء لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن نبرم العهد ونحكم العقد; لما عَدَلنا إلى غيره، فقالت: " إلَيْكُمْ عَنيّ ! فَلا عُذْرَ بَعْدَ تَعذيرِكُم وَلا أمْرَ بَعْدَ تَقصيرِكُم "25.
* سلسلة أعلام الهداية-فاطمة الزهراء"سيدة النساء"-، المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام، ط1، 1422هـ، ج3، ص173-181.
________________________________________
1- بحار الأنوار: 43 / 185.
2- الإمامة والسياسة لابن قتيبة: 29.
3- عائفة: أي كارهة.
4- القالية: المبغضة.
5- لفظت الشيء من فمي: أي رميته وطرحته.
6- عجمتهم: جرّبتم.
7- شنأتهم: أبغضتهم.
8- سبرتُهُم: اختبرتُهُم، فعلى ما في أكثر الرّوايات المعنى: طرحتهم وأبغضتهم بعد امتحانهم ومشاهدة سيرتهم وأطوارهم.
9- قبحاً ـ بالضمّ ـ: مصدر حذف فعله، إمّا من قولهم: قبّحه الله قبحاً، أو من قبح بالضمّ قباحة، فحرف الجرّ على الأوّل داخل على المفعول، وعلى الثّاني على الفاعل، والفلول بالضمّ: جمع فلّ بالفتح، وهو الثّلمة والكسر في حدّ السيف، وحكى الخليل في العين أنّه يكون مصدراً، ولعلّه أنسب بالمقام.
10- وفي الأمالي: " فقبحاً لأفون الرأي ". قال الجزريّ: في حديث عليّ عليه السلام: إيّاك ومشاورة النساء فإنّ رأيهنّ إلى أفن، الأفن: النقص، ورجل أفن ومأفون أي ناقص العقل النهاية: 51 / 57.
11- اللّعب بعد الجدّ: أي أخذتم دينكم باللّعب والباطل بعد أن كنتم مجدّين فيه آخذين بالحجّة.
12- وقرع الصّفاة، الصّفاة: الحجر الأملس أي جعلتم أنفسكم مقرعاً لخصامكم حتّى قرعوا صفاتكم أيضاً.
13- من الاحتجاج.
14- الخور ـ بالفتح وبالتحريك ـ: الضعف " وفي الاحتجاج: صدع: أي شقّ " والقناة: الرّمح.
15- والخطل ـ بالتحريك ـ: المنطق الفاسد المضطرب، وخطل الرأي: فساده واضطرابه. وفي الأمالي: " القول " وفي الاحتجاج: "الآراء".
16- من الاحتجاج.
17- لا جرم: كلمة تورد لتحقيق الشيء. يعني: حقّاً.
18- من الأمالي.
19- ربقتها: الرّبقة في الأصل: عروة في حبل تجعل في عنق البهيمة أو يدها تمسكها، ويقال للحبل الذي تكون فيه الربّقة، ربق، وتجمع على ربق ورباق وأرباق، والضمير في ربقتها راجع إلى الخلافة المدلول عليها بالمقام، أو إلى فدك، أو حقوق أهل البيت عليهم السلام أي جعلت إثمها لازمة لرقابهم كالقلائد.
20- من الاحتجاج وحمّلتهم أوقتها: قال الجوهري: الأوق: الثّقل، يقال: ألقى عليه أوقه، وقد أوّقته تأويقاً أي حمّلته المشقّة والمكروه.
21- قولها: وشننت عليهم غارها، الشنّ: رشّ الماء رشّاً متفرّقاً، والسنّ ـ بالمهملة ـ: الصبّ المتّصل، ومنه قولهم: سنّت عليهم الغارة إذا فرّقت عليهم من كلّ وجه.
22- الجدع: قطع الأنف أو الأذن أو الشّفة، وهو بالأنف أخصّ، ويكون بمعنى الحبس.
23- والعقر بالفتح: الجرح، ويقال في الدّعاء على الإنسان: عقراً له وحلقاً. أي عقر الله جسده وأصابه بوجع في حلقه، واصل العقر: ضرب قوائم البعير أو الشاة بالسّيف، ثمّ اتّسع فيه فاستعمل في القتل والهلاك.
24- وفي الاحتجاج: بُعداً.
25- مصادر الخطبة: معاني الأخبار لابن بابويه، والاحتجاج للطبرسي، والأمالي للشيخ الطوسي، ودلائل الإمامة للطبري، و بلاغات النساء لأبي الفضل بن أبي طاهر، وكشف الغمّة للأربلي، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد.
تدريب
4485قراءة
2017-02-13 14:07:50