12 سنة من العطاء

 

جديد المواضيع

الموضوعات الدينية المتنوعة >> التقوى ومراتب الكمال

التقوى
عن الإمام الصادق عليه السلام:
"كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: نبّه بالتفكُّر قلبك، وجافِ عن الليل جنبك، واتّقِ الله ربّك"1.

معنى التقوى:
التقوى في اللغة من الوقاية. والمقصود منها في الأحاديث "وقاية النفس من عصيان أوامر الله ونواهيه وما يمنع رضاه"، فهي ليست مجرّد حفظ النفس عن الأمور الّتي نعلم أنّها معصية، بل هي حفظ النفس حفظاً تامّاً عن الوقوع في المحظورات بترك الشبهات.

وقد ورد في الروايات:
"ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم"2، "فمن رتع حول الحِمى أوشك أن يقع فيه"3.
التقوى ومراتب الكمال:
إنّ التقوى ليست هي مقاماً من مقامات الكمال، وإنما هي وسيلة لبلوغ تلك المقامات، ولا يمكن بلوغ أيّ مقام بدونها.
فالنفس ما دامت ملوّثة بالمحرّمات، لا تكون داخلة في الإنسانية ولا سالكة في طريقها.
وما دامت تميل إلى الشهوات وتستطيب حلاوتها، لن تصل إلى أوّل مقامات الكمال الإنساني.
وما دام حبّ الدنيا والتعلُّق بها في القلب، فلا يمكن أن يصل إلى مقام المتوسّطين والزاهدين.

وما دام حبُّ الذّات باقياً في دخيلة نفسه، لن ينال مقام المخلصين والمحبّين.
وما دام لم يصل إلى مرحلة "ما رأيت شيئاً إلّا ورأيت الله فيه ومعه وقبله وبعده"4 ولا زالت الكثرة الملكية والملكوتية ظاهرة في قلبه، لن يصل إلى مقام المنجذبين، وهكذا إلى المقامات الأعلى والأشمخ...

فتقوى العامة إذاً تكون من المحرّمات، وتقوى الخاصّة من المشتهيات، وتقوى الزاهدين من حبّ الدنيا، وتقوى المخلصين من حبِّ الذّات، وتقوى المنجذبين من الالتفات لغير الله...
وهذه المراتب لها تفاصيل لن ينال منها أمثالنا سوى الحيرة والضياع في المصطلحات، والبقاء في حجب المفاهيم. فالمهمّ بالنسبة لنا التركيز على تقوى العامة.
مرض النفس:
اعلم أيُّها العزيز أنّه مثلما يكون لهذا الجسد صحة ومرض، وعلاج ومعالج، فإنّ للنفس الإنسانية أيضاً صحة ومرضاً، وسقماً وسلامة، وعلاجاً ومعالجاً. إنّ صحة النفس وسلامتها هي الاعتدال في طريق الإنسانية، ومرضها وسقمها هو الاعوجاج والانحراف عن طريق الإنسانية، وإنّ الأمراض النفسية أشدّ فتكاً آلاف المرّات من الأمراض الجسمية. وذلك لأن هذه الأمراض إنّما تصل إلى غايتها بحلول الموت. فما أن يحلّ الموت، وتفارق الروح البدن، حتّى تزول جميع الأمراض الجسمية والاختلالات المادّية، ولا يبقى أثر للآلام أو الأسقام في الجسد. ولكنّه إذا كان ذا أمراض روحية وأسقام نفسية ـ لا سمح الله ـ فإنّه ما أن تفارق الروح البدن، وتتوجّه إلى ملكوتها الخاص، حتّى تظهر آلامها وأسقامها.

إنّ مَثَل التوجُّه إلى الدنيا والتعلُّق بها، كمثل المخدِّر الّذي يسلب الإنسان شعوره بنفسه. فعندما يزول ارتباط الروح بدنيا البدن، يرجع إليها الشعور بذاتها، ومن ثَمّ الإحساس بالآلام والأسقام الّتي كانت في باطنها، فتظهر مهاجمة لها بعد أن كانت مختفية كالنار تحت الرماد. وتلك الآلام والأسقام إمّا أن تكون ملازمة لها (للروح) ولا تزول عنها أبداً، وإمّا أن تكون قابلة للزوال. وفي هذه الحال يقتضيها أن تبقى آلاف السنين تحت الضغط والعناء والنار والاحتراق قبل أن تزول، إذ إنّ آخر الدواء الكي. قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ﴾5.

إنّ الأنبياء هم بمنزلة الأطباء المشفقين، الذين جاءوا بكلّ لطف ومحبّة لمعالجة المرضى، بأنواع العلاج المناسب لحالهم، وقاموا بهدايتهم إلى طريق الرشاد. "إنّنا أطبّاء وتلاميذ الحقّ" وإنّ الأعمال الروحية القلبية والظاهرية
والبدنية هي بمثابة الدواء للمرض كما أنّ التقوى، في كلّ مرتبة من مراتبها، بمثابة الوقاية من الأمور المضرّة للأمراض. ومن دون الحميّة لا يمكن أن ينفع العلاج، ولا أن يتبدّل المرض إلى صحّة.

قد يغلب الدواء والطبيعة على المرض في الأمراض الجسمية حتّى مع عدم الحمية جزئياً. وذلك لأنّ الطبيعة هي نفسها حافظة للصحة ودواء لها. ولكن الأمر في الأمراض النفسية صعب، وذلك لأنّ الطبيعة قد تغلّبت على النفس منذ البداية، فتوجّهت هذه نحو الفساد والانتكاس ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾6، وعليه، فإنّ من يتهاون في الحمية، تصرعه الأمراض، وتجد مناطق للنفوذ إليه، حتّى تقضي على صحّته قضاء مبرماً.

إذاً، فالإنسان الراغب في صحّة النفس، والمترفِّق بحاله، إذا تنبّه أنّ وسيلة الخلاص من العذاب تنحصر في أمرين: الأوّل: الإتيان بما يُصلح النفس ويجعلها سليمة. والآخر: هو الامتناع عن كلّ ما يضرّها ويؤلمها.

ومن المعلوم أنّ ضرر المحرّمات أكثر تأثيراً في النفس من أيّ شيءٍ آخر، ولهذا كانت محرّمة، كما أنّ الواجبات لها أكبر الأثر في مصلحة الأمور، ولهذا كانت واجبة وأفضل من أيّ شيء، ومقدّمة على كلّ هدف، وممهِّدة للتطوّر إلى ما هو أحسن.

إنّ الطريق الوحيد إلى المقامات والمدارج الإنسانية يمرّ عبر هاتين المرحلتين، بحيث إنّ من يواظب عليهما يكون من الناجين السعداء، وأهمّهما هي التقوى من المحرّمات، وإنّ أهل السلوك يحسبون هذه المرحلة مقدّمة على المرحلة الأولى، إذ يتّضح من الرجوع إلى الأخبار والروايات وخطب "نهج البلاغة" أنّ المعصومين عليهم السلام كانوا يعتنون كثيراً بهذه المرحلة.
إذاً، أيُّها العزيز! بعد أن عرفت بأنّ المرحلة مهمّة جدّاً. ثابر عليها بدقّة، فإذا أنت خطوت الخطوة الأولى وكانت صحيحة، وبنيت هذا الأساس قوياً، كان هناك أمل بوصولك إلى مقامات أخرى، وإلّا امتنع الوصول، وصعبت النجاة.

كان شيخنا العارف الجليل يقول: إنّ المثابرة على تلاوة آخر آيات سورة الحشر المباركة، من الآية الشريفة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾7. إلى آخر السورة المباركة، مع تدبُّر معانيها، في تعقيبات الصلوات، وخصوصاً في أواخر الليل حيث يكون القلب فارغ البال، مؤثِّرة جدّاً في إصلاح النفس، وفي الوقاية من شرّ النفس والشيطان. وكان يوصي بدوام حال الوضوء، قائلاً: إنّ الوضوء مثل "بزّة جندي". وعلى كلّ حال، عليك أن تطلب من القادر ذي الجلال، من الله المتعال جلّ جلالة، مع التضرُّع والبكاء والالتماس كي يوفقك في هذه المرحلة ويعينك في الحصول على خصلة التقوى.

واعلم، أنّ بدايات الأمر صعبة وشاقّة، ولكن بعد فترة من الاستمرار والمثابرة تتحوّل المشقّة إلى راحة، والعسر إلى يُسر، بل تتبدّل إلى لذّة روحية، خصوصاً، وأنّ أصحاب هذه اللذّة لا يستبدلونها بجميع اللذائذ. ويمكن، إن شاء الله، وبعد المواظبة الشديدة والتقوى التامة، أن تنتقل من هذا المقام إلى مقام تقوى الخاصّة. وهي التقوى الّتي تتلذّذ الروح بها. إذ إنّك بعد أن تذوق طعم اللذّة الروحية تترك شيئاً فشيئاً اللذائذ الجسدية وتتجنبّها. وعندئذٍ يسهل عليك المسير حتّى لا تعود تقيم وزناً للذات الجسدية الزائلة، بل تنفر منها، وتقبّح زخارف الدنيا في عينيك، وتنظر في باطنك فتجد أنّ كلّ لذّة من لذّات هذا العالَم قد أوجدت في النفس أثراً وأبقت في القلوب لطخة سوداء تبعث على شدّة الأنس بهذه الدنيا والتعلُّق بها. وهذه هي نفسها تكون سبب الإخلاد إلى
الأرض. وعند سكرات الموت تتبدّل إلى صعوبة ومشقّة ومعاناة. والواقع أنّ صعوبة سكرات الموت وحالة النزع الأخير القاسية ناجمة عن هذه اللذّات وحبّ الدنيا، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. فإذا أدرك الإنسان هذا المعنى سقطت لذّات العالَم من عينه كلّياً، ونفر من الدنيا وما فيها من مباهج وزخارف. وهذا هو التقدُّم الثاني إلى المقام الثالث من التقوى.

وبذلك يُصبح سبيل السلوك إلى الله سهلاً ميسوراً، وطريق الإنسانية نيّراً واسعاً، وتصبح خطوته شيئاً فشيئاً خطوة الحقّ، ورياضته رياضة الحقّ، ويتهرّب من النفس وآثارها وأطوارها. إذ يجد في ذاته عشق الحقّ، فلا يعود يقنع بوعود الجنّة والحور العين والقصور، بل يكون مطلوبة ومقصوده أمراً آخر، وينفر من الأنانية وحبّ الذّات.

فيتّقي حبّ النفس ويتّقي ذاته وأنانيته. وهذا مقام على قدر كبير من الشموخ والرفعة، وهو أوّل مراتب هبوب نسيم الولاية، فيدرجه الحقّ المتعال في كنف لطفه ويعينه ويجعله موضع ألطافه الخاصّة.
أما ما يحدث للسالك بعد ذلك فخارج عن قدرة القلم.

 

 

هوامش
1- الكافي، ج 2، ص 54.
2- م.ن، ج1، ص68.
3- وسائل الشيعة، ج18، ص122.
4- شرح الأسماء الحسنى، الملا هادي السبزواري، ج 1، ص 190.
5- سورة التوبة، آية: 35.
6- سورة يوسف: آية 53.
7- سورة الحشر، آية: 18.

 

 

تدريب
1914قراءة
2018-06-11 10:22:26

تعليقات الزوار


إعلانات

 

 

12 سنة من العطاء

إستبيان

تواصل معنا