أبواب الصلة والاتصال بأمواتنا
إنّ أحوج ما يحتاج إلينا في ذلك العالم وتلك المرحلة من سفره الطويل والشاقّ، لا سيّما لمن قصَّر في دار الدنيا في واجباته الّتي افترضها الله تعالى عليه. وتتأكّد هذه الصلة لمن كان مقصّراً مع فقيده في الدنيا، فإنّه يستطيع أن يستدرك شيئاً من تقصيره لعلّ الله يغفر له ويرضي فقيده عنه لا سيّما والديه.
عن محمّد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله الصادق عليه السلام : "نزور الموتى؟ فقال عليه السلام : نعم، قلت: فيسمعون بنا إذا أتيناهم؟ قال عليه السلام : إي والله ليعلمون بكم ويفرحون بكم ويستأنسون إليكم"1.
إذا كنت أعلم أن صديقاً يعزُّ عليّ، أو أحد أفراد أسرتي في يد عدوٍّ، أو تقترب منه حيّة أو سبع فإنّي أسرع تاركاً كلّ شيء من خلفي لأنقذ أو أساعد هذا العزيز على قلبي. والنزعة والميل لهذا التوجّه والمساعدة أمر فطريّ قد جرّبه كلّ واحد منّا في حياته.
ومن كرمِ الله تعالى أنّه لم يسدَّ بيننا وبين أمواتنا جميع أبواب الصلة والاتصال والارتباط حتّى - نمدّ يد العون لهم. وفي نفس الوقت جعلها تعالى فرصة للميت حتّى يستدرك - بعض ما فاته حال حياته ولذلك شجّعه على الصدقة الجارية والولد الصالح والسنة الحسنة.
فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام : "ليس يتبع المرء بعد موته من الأجر إلّا ثلاث خصال، صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته، وسنَّة هدى سنَّها، فهي يُعمل بها بعد موته أو ولد صالح يدعو له"2.
ونرى في رواية محمّد بن مسلم أنّ الإمام الصادق عليه السلام يحثّ على زيارة الموتى وأنّهم يعلمون ويفرحون ويستأنسون بمن يحضرهم للزيارة.
بل يأتون إلينا طالبين العون حيث انقطعوا عن العمل وينتظرهم حساب على كلّ صغيرة وكبيرة، حتّى الكلمة والخاطرة في القلب.
وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "اهدوا لموتاكم، فقلنا: يا رسول الله وما هديّة الأموات؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم : الصدقة والدعاء. وقال صلى الله عليه وآله وسلم : إنّ أرواح المؤمنين تأتي كلّ جمعة إلى السماء الدنيا بحذاء دُورهم وبيوتهم ينادي كلّ واحد منهم بصوت حزين باكين: يا أهلي ويا وُلدي ويا أبي ويا أميّ وأقربائي: أعطفوا علينا يرحمكم الله بالّذي كان في أيدينا، والويل والحساب علينا والمنفعة لغيرنا... أعطفوا علينا بدرهم، أو رغيف، أو بكسوة يكْسوكم الله من لباس الجنّة. ثمّ بكى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وبكينا معه، ثمّ قال صلى الله عليه وآله وسلم : أولئك إخوانكم في الدين فصاروا تراباً رميماً بعد السرور والنعيم، فينادون بالويل والثبور على أنفسهم يقولون: يا ويلنا لو أنفقنا ما كان في أيدينا في طاعة الله ورضائه ما كنّا نحتاج إليكم، فيرجعون بحسرة وندامة وينادون أسرعوا صدقة الأموات"3.
فإن كنتُ أحبُّ من افتقدتُ وعزَّ عليّ فراقه وآلمني مصابه، فلماذا سرعان ما أنساه في مواقف أصعب وأشدّ عليه من كلّ مصائب وبلاءات الدنيا ؟ يمكنني أن أمدَّ له يد العون والمساعدة بالصدقة والصلاة والحجّ والدعاء والاستغفار والمساهمة عنه في مشروع خيريّ كبناء مدرسة أو مكتبة أو مستشفى، أو قضاء حاجة مسلم أفرِّج عنه كربه، وغيرها من الأعمال الّتي تنفعه، وسيأتي تفصيل الكلام فيها.
وفي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً قال: "من عمل من المؤمنين عن ميت عملاً أضعف الله له أجره وينعم به الميت"4.
لا تستقلّ هديّتك لفقيدك مهما كانت، كالترحّم عليه والاستغفار له، حيث روي أنّ الميت ليفرح بالترحّم عليه والاستغفار له كما يفرح الحيّ بالهديّة تهدى اليه.
والأجمل من هذا أنّ الميت يعلم مَن هو الّذي وصله وذكَره، فتسعده لأنّك استطعت أن تخبره أنّك لم تنسه بعد موته وأنّك على حبّك ووفائك له كما كنت في حياته.
سأل أحدهم الإمام الصادق عليه السلام : يُصلَّى عن الميت ؟ قال: "نعم. حتّى إنّه يكون في ضيق فيوسّع عليه ذلك الضيق، ثمّ يؤتى، فيقال له خُفِّف عنك هذا الضيق بصلاة فلان أخيك"5.
فعليك الانتباه إلى أنّك معرّض لنفس الموقف، وسيأتي عليك نفس اليوم الّذي تقف فيه هذا الموقف وتطلب فيه الصدقة والهديّة والذكر ولو بالترحّم وكسرة خبز لتُهدى ثوابها، ولا تغترّ بعملك - مهما كان - فإنّك لا تدري إلى ما تصير عليه وإلى أيّ عاقبة أمرك.
لا شكّ إن ذَكرتَ موتاك سخَّر الله تعالى لك من يذكرك، ولعلّ أحداً منهم ينفعك بشفاعته يوم القيامة لوجاهته عند الله تعالى وكرامته لديه، والله تعالى قد أخفى أولياءه في عباده كما ذكرت الرواية عن الإمام عليّ عليه السلام.
فما تنفع به اليومَ غيرك هو في الحقيقة لك، لا سيّما وأنّ لك عليه الأجر والثواب أيضاً. فلتطرق كلّ الأبواب لتجمع ليوم فقرك وحاجتك.
كيف تصل موتاك؟
1. أن تعمل على إفراغ ذمّة الميت من ديون الناس وحقوقهم، لا سيّما الّتي قد وضع يده عليها ظلماً وعدواناً وبلا أيّ وجه حقّ، والاستحلال منهم وممّن يعرف أنّه قد ظلمه بغيبة أو تهمة أو أذيّة في نفسه أو في عرضه أو في ماله أو في أيّ حقّ يمكن أن يطالب به يوم القيامة، حيث لا يستطيع أن يعيده ويُترك أمرُه إلى صاحبه وهو يومه. "ويومُ المظلوم على الظالم أشدّ من يوم الظالم على المظلوم"6 كما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام.
وفي رواية عن أمير المؤمنين عليه السلام يبيّن فيها أنواع الظلم ثمّ يقول عليه السلام : "أمّا الظلم الّذي لا يُترك فظلم العباد بعضهم بعضاً، القصاص هناك شديد ليس هو جرحاً في السكاكين ولا ضرباً بالسياط، ولكنّه ما يستصغر معه ذلك"7.
ولن يترك الله حقّاً لأحد على أحد مهما صغر في أعيننا. فقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام : قال الله تعالى: "وعزّتي وجلالي لا يجوزني ظلم ظالم ولو كفٌّ بكفّ، لو مسحة بكفّ ونطحة ما بين الشاة القرناء إلى الشاة الجمّاء، فيقتصّ الله للعباد بعضهم من بعض حتّى لا يبقى لأحد عند أحد مظلمة ثمّ يبعثهم الله للحساب"8.
خلِّص ذمّة حبيبك وأنقذه من هذه الهلكة، لا أقلّ إن كنت تستطيع إرجاع حقّ لمظلوم من تركته - إن كان غاصباً لمال أحد من الناس - ولم ترجعه حتّى ولو لم تأكله فإنّك أعنته على ظلمه وشاركته لسكوتك ورضاك. ولماذا لا يكون لك شرف إعانة هذا المظلوم وتكون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الجنّة كما في الحديث لمن أعان المظلوم؟!
2. حقوق الله المالية - وهي الّتي يعبّر عنها بالديون الشرعيّة كالخمس، والكفّارات، والزكاة، والنذورات - وهي كديون الناس يجب إخراجها من التركة قبل تقسيمها على الورثة سواء أوصى بها الميت أم لم يوصِ. بل لا يجوز التصرّف في التركة قبل إخراج هذه الحقوق حتّى بالصلاة والعبادة.
3. أفضل هدية وَصِلة للميت - بعد إفراغ ذمّته من الديون المالية الشرعية وغيرها - تنفيذ وصيّته في الواجبات الأخرى كقضاء الصلاة والصيام والحجّ لإبراء ذمّته منها.
ثمّ إنْ كان عليه شيء من هذه الحقوق ولكن لم يوصِ بها لعدم تركه للمال، أو أوصى بها ولم يكن له تركة ومال، يستحبّ التبرع عنه - سواء من الورثة أم من غيرهم - لإفراغ ذمّته منها فينتفع الفاعل بأجرها ويسقط عن الميت كما ورد في الرواية. نعم في خصوص الصلاة والصيام يجب على الولد الذكر الأكبر أن يقضي أو يستنيب من يقضي عنه ولو من ماله الخاصّ على تفصيل مرّ في تنفيذ الوصية.
4. ينتفع الميت بكلّ المستحبّات ووجوه البرّ سواء الّتي أوصى بها أم الّتي لم يوصِ بها. فإذا أراد الحيّ أن ينفع فقيده في قبره ووحشته ووحدته يستطيع أن يصله بحسن تجهيزه من حين تغسيله إلى تكفينه إلى تشييعه إلى دفنه ولحده، بأنّ يطلب ممّن يجهّزه أن يأتي بالسنن والآداب المعروفة الّتي تهوِّن على الميت وتخفِّف عنه قبل الدفن وبعد الدفن.
5. يتنفع الميت بالتطوّع عنه بالعبادات المستحبّة كالصلاة والصيام والحجّ والعمرة وزيارة مراقد المعصومين عليهم السلام ، يُؤتى بها نيابةً عنه، أو يُهدى بعد الإتيان بها ثوابها له.
رُوِيَ عن الإمام الكاظم عليه السلام : في الرجل يتصدّق عن الميت أو يصوم ويصلّي ويعتق، قال عليه السلام : "كلّ ذلك حسن يدخل منفعته على الميت". وفي بعض الروايات هو أيضاً ينتفع بهذ العمل9.
6. ينتفع الميت بالصدقة؛ وبالأخصّ الصدقة الجارية، ففي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام : "ستّة تلحق المؤمن بعد وفاته: ولد يستغفر له، أو مصحف يخلفه، وغرس يغرسه، وبئر يحفره، وصدقة يجريها، وسنّة يؤخذ بها من بعده"10.
المراد بالصدقة الجارية هي كلّ بِرٍّ وخير يفعله الإنسان قربةً إلى الله تعالى وينتفع به لوقت غير قصير؛ كبناء مسجد أو مدرسة أو مستشفى أو مأوى للأيتام أو حسينية أو بئر مياه أو مقبرة أو طريق يستفيد منه عموم الناس أو طريق لمنزل ليس له طريق، أو حديقة عامّة وغيرها من المنافع الخاصّة أو العامّة.
أنواع الصدقة الجارية
وهنا لا بدّ أن نقف قليلاً مع المؤمن الّذي يريد أن يرضي ربّه لنلفت نظره إلى هذه المسألة المهمّة.
وهي: إنّ الكثيرين قد يظنّون أنّ الصدقة الجارية هي فقط الحسينية والمسجد والمقبرة. وصحيح أنّ هذه أمور مهمّة وقد نحتاجها في القرية أو المدينة الّتي نعيش فيها لقلّتها أو لعدم وجودها أصلاً. ولكن في الكثير من الأحيان لا نحتاجها، ويعمد بعض الناس إلى بناء المساجد والحسينيّات مع الحاجة الملحَّة لكثير من المشاريع الخيريّة الأخرى كالمدارس والآبار، وفتح الطرق وتعبيدها وتوسيعها، أو بناء مشاغل ومعامل تساعد في إيجاد فرص عمل للعاطلين والشباب، ويعود في نفس الوقت ريعها للفقراء والأيتام وتعليم الشباب الّذين يمتلكون المؤهّلات والقابليّات وعندهم العزم والإصرار على التعلّم، ولكن أوضاعهم المالية لا تمكّنهم من ذلك. ولا شكّ أنّ هذه المشاريع قد تكون أهمّ بكثير من تلك مع عدم الحاجة لها والتخمة فيها. بل قد نجد أن بعض من يريد أن يبني مسجداً أو حسينية يبخل على جاره بطريق إلى منزله الّذي لا طريق له وهو في ضيق وحرج من وضعه. وهل يظنّ فاعل الخير هذا أن الأجر والثواب فقط في بناء المسجد وليس في التوسيع على جاره وقضاء حاجته وتفريج همّه وغمّه؟!
في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام : "من أغاث أخاه المؤمن اللهفان اللهثان عند جهده فنفَّس كربته وأعانه على نجاح حاجته كتب الله عزَّ وجلَّ له بذلك اثنتين وسبعين رحمة من الله، يعجِّل له منها واحدة يصلح بها أمر معيشته ويدَّخر له إحدى وسبعين رحمة لأفزاع يوم القيامة وأهواله"11.
هذا لمن فرَّج عن مؤمن كرباً وقضى له حاجة. أما الروايات الّتي تتحدّث عن إدخال السرور على المؤمن، فيكفي منها ما ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : "من سرَّ مؤمناً فقد سرّني ومن سرّني فقد سرّ الله"12.
وفي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام : "إذا بعث الله المؤمن من قبره خرج معه مثال يقدم أمامه، كلّما رأى المؤمن هولاً من أهوال يوم القيامة قال له المثال: لا تفزع ولا تحزن... فيقول له المؤمن: من أنت؟ فيقول: أنا السرور الّذي كنت أدخلت على أخيك المؤمن في الدنيا خلقني الله عزَّ وجلَّ منه لأبشّرك"13.
إنّك إلى تربة وضيق ووحشة وظلمة، فاصطنع لنفسك مؤنساً، وقريناً صالحاً يبشّرك بالجنّة. وسِّع على نفسك بما توسِّع به على المؤمنين في الدنيا.
إنّك ميت ومنقطع عن العمل والتزود إلّا من صدقة جارية - من أصناف ما ذكرت لا سيّما ما يدخل في عنوان قضاء الحوائج والتوسعة على عموم الناس والمسلمين ورفع الأذيّة عنهم - طالما هذه الصدقة يُنتفع منها وطالما يُسجّل لك في دفتر أعمالك وميزان حسناتك.
7. ينتفع الميت بالزيارة؛ ولذلك ورد حثٌّ كبير في روايات أهل البيت عليهم السلام على زيارة الموتى. وقد ذُكر سابقاً رواية محمّد بن مسلم عن الإمام الصادق عليه السلام ، حيث سأله نزور الموتى؟ فقال عليه السلام : "نعم. قال: فيسمعون بنا إذا أتيناهم؟ قال عليه السلام : "إي والله ليعلمون بكم ويفرحون بكم ويستأنسون إليكم"14.
* من كتاب أعينوا موتاكم، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1-بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج99، ص300.
2-الكافي، ج7، ص56.
3-مستدرك الوسائل، ج2، ص 484.
4-وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج2، ص444.
5-م. ن، ج2، ص443.
6-بحار الأنوار، ج72، ص 320.
7-نهج البلاغة، ج2، ص95.
8-الكافي، ج2، ص443.
9-وسائل الشيعة، ج8، ص279.
10-الكافي، ج7، ص57.
11-الكافي، ج2، ص199.
12-الكافي، ج2، ص 188.
13-م. ن، ج2، ص190.
14-البحار، ج99، ص300.
تدريب
1046قراءة
2022-04-09 12:21:40