الدرس الرابع عشر: تفسير سورة الفاتحة (2)
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف معنى: إيّاك نعبد وإيّاك نستعين.
2- يفهم صفات أهل الهدى وأهل الضلال.
3- يشرح صفات المغضوب عليهم.
1- ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾
هذه الآية تُلفت الأنظار إلى أصل هامّ آخر من أصول الإِسلام، هو يوم القيامة: ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، وبذلك يكتمل محور المبدأ والمعاد، الّذي يُعتبر أساس كلّ إصلاح أخلاقيّ واجتماعيّ في وجود الإِنسان.
تعبير ﴿مَلِكِ﴾ يوحي بسيطرة الله التامّة وهيمنته المستحكمة على كلّ شيء وعلى كلّ فرد في ذلك اليوم، حيث تحضر البشريّة في تلك المحكمة الكبرى، وتقف أمام مالكها الحقيقيّ للحساب، وترى كلّ ما فعلته وقالته، بل وحتّى ما فكّرت به، حاضراً..
الإِيمان بيوم القيامة، وبتلك المحكمة الإِلهيّة الكبرى الّتي يخضع فيها كلّ شيء للإحصاء الدقيق، له الأثر الكبير في ضبط الإِنسان أمام الزلّات، ووقايته من السقوط في المنحدرات.
وأحد أسباب قدرة الصلاة على النهي عن الفحشاء والمنكر هو أنّها تُذكِّر الإِنسان بالمُبدئ المطّلع على حركاته وسكناته، وتُذكّره أيضاً بمحكمة العدل اللهيّ الكبرى.
التركيز على مالكيّة الله ليوم القيامة يُقارع من جهة أُخرى معتقدات المشركين ومنكري المعاد، لأنّ الإِيمان بالله عقيدة فطريّة عامّة، حتّى لدى مشركي العصر الجاهليّ، وهذا ما يُوضّحه القرآن إذ يقول: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾1 بينما الإِيمان بالمعاد ليس كذلك، فهؤلاء المشركون كانوا يواجهون مسألة المعاد بعناد واستهزاء ولجاج: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ﴾2 .
وروي عن الإمام عليّ بن الحسين السجّاد عليه السلام: "أَنَّه كَانَ إذا قَرَأَ ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ يُكَرِّرُهَا حَتَّى يَكَاد أَنْ يَمُوتَ"3 .
أمّا تعبير ﴿يَوْمِ الدِّينِ﴾، فحيثما ورد في القرآن يعني يوم القيامة، وتكرّر ذلك في أكثر من عشرة مواضع من كتاب الله العزيز، وفي الآيات 17 و 18 و 19 من سورة الانفطار ورد هذا المعنى بصراحة.
وأمّا سبب تسمية هذا اليوم بيوم الدِّين، فلأنّ يوم القيامة يوم الجزاء، و"الدِّين" في اللغة "الجزاء"، والجزاء أبرز مظاهر القيامة، ففي ذلك اليوم تُكشف السرائر ويُحاسب النّاس عمّا فعلوه بدقّة، ويرى كلّ فرد جزاء ما عمله صالحاً أم طالحاً.
وفي حديث عن الإِمام الحسن العسكري عليه السلام يقول: "يَوْمُ الدِّينِ هُوَ يَوْمُ الْحِسَابِ"4 ، "والدِّين" استناداً إلى هذه الرواية يعني "الحساب".
2- ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾
في هذه الآية يتغيّر لحن السّورة، إذ يبدأ فيها دعاء العبد لربّه والتضرّع إليه. الآيات السابقة دارت حول حمد الله والثناء عليه، والإِقرار بالإِيمان والاعتراف بيوم القيامة. وفي هذه الآية يشعر الإِنسان - بعد رسوخ أساس العقيدة ومعرفة الله في نفسه - بحضوره بين يدي الله... يُخاطبه ويُناجيه، ويُقرّ أوّلاً بتعبّده، ثمّ يستمدّ العون منه وحده دون سواه: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾.
بعبارة أُخرى: عندما تتعمّق مفاهيم الآيات السابقة في وجود الإِنسان، وتتنوّر روحه بنور ربّ العالمين، ويُدرك رحمة الله العامّة والخاصّة، ومالكيّته ليوم الجزاء، يكتمل الإِنسان في جانبه العقائديّ. وهذه العقيدة التوحيديّة العميقة، ذات عطاء يتمثّل.
أوّلاً: في تربية الإِنسان العبد الخالص لله، المتحرّر من العبوديّة للآلهة الخشبيّة والبشريّة والشهويّة.
ثانياً: في الاستمداد من ذات الله تبارك وتعالى خاصّة دون غيره.
الآيات السابقة تحدّثت في الحقيقة عن توحيد الذَّات والصِّفات، وهذه الآية تتحدّث عن توحيد العبادة وتوحيد الأفعال.
ومعنى هذا التوحيد أنّ الله هو المؤثّر الحقيقيّ في العالم (لاَ مُؤَثِّرَ فَي الْوُجُودِ إلاَّ الله). وهذا لا يعني إنكار عالم الأسباب، وتجاهل المسبّبات، بل يعني الإِيمان بأنّ تأثير الأسباب إنّما كان بأمر الله، فالله سبحانه هو الّذي يمنح النار خاصّيّة الإحراق، والشمس خاصّيّة الإِنارة، والماء خاصّيّة الإِحياء.
ثمرة هذا الاعتقاد أنّ الإِنسان يُصبح معتمداً على (الله) دون سواه، ويرى أنّ الله هو القادر العظيم فقط، ويرى ما سواه شبحاً لا حول له ولا قوّة بل لا يرى شيئاً غير الله، وهو وحده سبحانه اللائق بالاتّكال والاعتماد عليه في كلّ الأمور.
وبالتّالي هو الواحد الّذي يستحقّ العبادة فلا معبود سواه.
3- ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾
بعد أن يُقرّ الإِنسان بالتسليم لربّ العالمين، ويرتفع إلى مستوى العبوديّة لله والاستعانة به تعالى، يتقدّم هذا العبد بأوّل طلب من بارئه، وهو الهداية إلى الطريق المستقيم، طريق الطّهر والخير، طريق العدل والإِحسان، طريق الإِيمان والعمل الصالح، ليهبه الله نعمة الهداية كما وهبه جميع النِّعم الأخرى.
الإِنسان في هذه المرحلة مؤمن طبعاً وعارف بربّه، لكنّه معرّض دوماً بسبب العوامل المضادّة إلى سلب هذه النعمة والانحراف عن الصراط المستقيم. من هنا كان عليه لزاماً أن يُكرِّر عشر مرّات في اليوم على الأقلّ طلبه من الله أن يقيه العثرات والانحرافات.
أضف إلى ما تقدّم أنّ الصراط المستقيم هو دين الله، وله مراتب ودرجات لا يستوي في طيّها جميع النّاس، ومهما سما الإِنسان في مراتبه، فثمّة مراتب أُخرى أبعد وأرقى، والإنسان المؤمن توّاق دوماً إلى السير الحثيث على هذا السلّم الارتقائيّ، وعليه أن يستمدّ العون من الله في ذلك.
عن الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، في تفسير: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ قال: أي: "أَدِمْ لَنَا تَوْفِيقَكَ الَّذِي أَطَعْنَاكَ بِهِ فِي مَا مَضى مِنْ أيَّامِنَا، حَتَّى نُطِيعَكَ في مُسْتَقْبَلِ أَعْمَارِنَا"5 .
وعن الإِمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام: "يَعْني أرْشِدْنَا لِلزُومِ الطَّريقِ الْمُؤَدّي إلى مَحَبَّتِكَ، وَالْمُبلِّغِ إلى جَنّتكَ، وَالْمَانِعِ مِنْ أَنْ نَتّبعَ أَهْواءَنَا فَنَعْطَبَ، أو أَنْ نَأْخُذَ بِآرَائِنَا فَنَهْلَكَ6 .
4- ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾
خطّان منحرفان!
هذه الآية تفسير واضح للصراط المستقيم المذكور في الآية السابقة، إنّه صراط المشمولين بأنواع النِّعم (مثل نعمة الهداية، ونعمة التوفيق، ونعمة القيادة الصالحة، ونعمة العلم والعمل والجهاد والشهادة) لا المشمولين بالغضب الإلهيّ بسبب سوء فعالهم وزيغ قلوبهم، ولا الضائعين التائهين عن جادّة الحقّ والهدى.
ولأنّنا لسنا على معرفة تامّة بمعالم طريق الهداية، فإنّ الله تعالى يأمرنا في هذه الآية الكريمة أن نطلب منه هدايتنا إلى طريق الأنبياء والصالحين من عباده: ﴿الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ﴾، ويُحذِّرنا كذلك من أنّ أمامنا طريقين منحرفين، وهما طريق ﴿المَغضُوبِ عَلَيهِمْ﴾، وطريق: ﴿الضَّالِّينَ﴾، وبذلك يتبيّن للإِنسان طريق الهداية بوضوح.
1- من هم ﴿الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ﴾؟
تُبيّن الآية الكريمة من سورة النساء من هم الّذين أنعم الله عليهم،إذ يقول تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾7 .
والآية تُقسِّم الّذين أنعم الله عليهم إلى أربعة مجاميع: الأنبياء، والصدّيقين، والشهداء، والصالحين.
2- من هم ﴿المَغضُوبِ عَلَيهِمْ﴾، ومن هم ﴿الضَّالِّينَ﴾؟
يتّضح من الآية الكريمة أنّ ﴿المَغضُوبِ عَلَيهِمْ﴾ و ﴿الضَّالِّينَ﴾ مجموعتان لا مجموعة واحدة، وأمّا الفرق بينهما:
فإنّه يُستفاد من استعمال التعبيرين في القرآن أنّ "المغضوب عليهم" أسوأ وأحطّ من "الضّالّين"، أي إنّ الضّالين هم التائهون العاديّون، والمغضوب عليهم هم المنحرفون المعاندون، أو المنافقون، ولذلك استحقّوا لعن الله وغضبه.
قال تعالى: ﴿وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ﴾8 .
وقال سبحانه: ﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ﴾9 .
﴿المَغضُوبِ عَلَيهِمْ﴾ إذاً يسلكون - إضافة إلى كفرهم - طريق اللّجاج والعناد ومعاداة الحقّ، ولا يألون جهداً في توجيه ألوان التنكيل والتعذيب لقادة الدعوة الإِلهيّة.
يقول سبحانه: ﴿وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ﴾10 .
المفاهيم الرئيسة
في هذه السورة المباركة يكون الإِنسان بين يدي الله، فهو مالك يوم الدِّين أي يوم الحساب، يُخاطبه ويُناجيه، يتحدّث إليه أوّلاً عن تعبّده، ثمّ يستمدّ العون منه وحده دون سواه قائلاً: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾.
ويسأله الهداية: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُستَقِيمَ، أي طريق الطّهر والخير، طريق العدل والإِحسان، طريق الإِيمان والعمل الصالح، الّذي هو طريق الأنبياء والصالحين من عباده لا طريق المغضوب عليهم والضالّين.
1- سورة الزمر، الآية 38.
2- سورة سبأ، الآيتان 7 و 8.
3- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج6، ص152.
4- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام، ص38.
5- الشيخ الصدوق، معاني الأخبار، ص 33.
6- م. س، ص 34.
7- سورة النساء، الآية 69.
8- سورة النحل، الآية 106.
9- سورة الفتح، الآية 6.
10- سورة البقرة، الآية 61.
برامج
1134قراءة
2021-11-09 23:14:26