12 سنة من العطاء

 

جديد المواضيع

الإحياء العاشورائي للناشئة >> القصص العاشورائيّة المسجّلة

القصص العاشورائيّة المسجّلة

 

الصلاة الأخيرة
-    "قم يا حسين! كلّ ما عانيته، في عين الله".
-    الآن أنا وحيد.
-    "أنت لست وحيدًا، أنت لست واحدًا. أنت الآن خلاصة الضوء، إن لم ترتفع سيهبط إليك مكانك من السماء".
-    لماذا أقاتلهم إذاً؟
-    يقاتلهم الله بيدك وبسيف جدّك. اتبع ضوء السيف بيدك".
-    هل هو سيف جدّي الأخير؟
-    "لا! الأخير في يد سميّه وشبيهه، يأتي منك ويعود إليك، الأخير في يد صاحب العصر".
**********
تقدَّم الحسين للمعركة.
-    "اضرب يا حسين، لك مجد السماء، اضرب يا حسين يذوقون الألم من يدك. أما أنت، حين يضج دمك من أرضك، تتلقفه السماء".
-    لكنني عاصفة. إذا أردت أمحوهم.
-    "اضرب حتى يأذن ربك".
**********
صاح صائحٌ في معسكرهم: "ما أنتم فاعلون؟ هذا ابن قتّال العرب، إذا لم تحملوا عليه جميعًا سيفنيكم".
**********
-    "اضرب يا حسين، أبواب جهنم فتحت لهم".
-    أأفنيهم؟
-    "لولا كلمة الله لكان ذلك، لكنّك القربان الأعظم، اضرب الآن، وبعد حين يعرج دمك إلى الملكوت".
*****
صاح صائح في معسكرهم: "إنّه يفنينا، اهجموا عليه. تفرقوا. توزعوا، بالحجارة، بالسيوف، بالرماح، بالنبال،...".
-    "اضرب يا حسين، دمك الآن يدنو من باب جنته".
-    وعطشي؟
-    "لك الكوثر. اضرب. أنت حافظ النور. يجب أن تضرب".
صاح صائح خائف في معسكرهم: "ألا تسقي نساءك يا حسين؟".
ابتسم الحسين.
قاده ضوء السيف إلى النهر، خاض فيه حصانه ولم يشرب. حمل الحسين الماء بيده ولم يشرب: "كيف لي ونسائي في عطش؟".
-    "لا تشرب يا حسين، دعهم يروا ذلك. لك الكوثر، بينك وبينه صلاتك الأرضية الأخيرة".
تبع الحسين ضوء السيف يحصدهم.
صاح صائح، يرتعد، في معسكرهم: "لم يشرب، بل عاد إلينا. اقتلوه".
*****
-    "القربان الأعظم أنت. كفَّ الآن عن القتال. حانت لحظة النور".
-    وسيف جدي؟.
-    "ارفعه إليه".
رفع الحسين يده بالسيف، تلقفته السماء. 
-    "وجِّه صدرك وعنقك لباب السماء، ترتفع بدمك".
*****
صاح صائح منهم: "رميناه، أصبناه".
ابتسم الحسين: "وددت لو أصلي الآن".
-    " توضأ بدمك. هيِّء نفسك لصلاتك الأرضية الأخيرة".
-    هذا دمي، هل تشربه الأرض؟.
-    "بل ارمِ منه إلى السماء".
رمى الحسين من دمه إلى الأعلى، تلقفته السماء.
-    "أنت على وضوئك يا حسين، صلّ لربك صلاتك الأرضية الأخيرة".
رفع الحسين يديه إلى السماء: "يا رب، إنه في عينك".
-    أصبناه. أقتلوه. إنه ينازع.
ابتسم الحسين: "سقطت ركبتاي على الرمل".
-    "اركع لله في صلاتك الأرضية الأخيرة، وقدمها يا حسين نفساً مطمئنة، زكية، خلاصة الضوء، الآن".
-    ارموه بسهامكم!.
ابتسم الحسين: "سقطت كفاي على الرمل".
-    "تهيّأ لسجودك الأخير في صلاتك الأرضية الأخيرة".
-    اذبحوه!.
ابتسم الحسين: "سقط جبيني على الرمل".
-    "اسجد لله في صلاتك الأرضية الأخيرة، وقدمها يا حسين. قدم آخر نقطة من دمك، ومُدَّ قدمك اليمنى، تدخل الجنة. فتح باب من أبوابها لا يلجه إلا المقدسون".
-    اذبحوه.
ابتسم الحسين: "عرّوا عنقي".
-    " مُدَّه لجدك. إنه ينتظر".
-    اذبحه يا شمر!.
ابتسم الحسين: "أشعر بحرارة في نحري، حيث كان يقبلني جدي".
-    "قدم نحرك لجدك. اشتاق إليه".
-    اذبحه يا شمر!.
ابتسم الحسين، أغمض عينيه، قبَّله جدّه في نحره، فتحهما على مصاريع النور.

 

قصّة الصلاة الأخيرة - بصوت سوسن عواد:

لتحميل الملف: اضغط هنا

 

قصّة الصلاة الأخيرة - بصوت فؤاد شمص

 


 

لتحميل الملف: اضغط هنا

 

جواد الحسين 

خاطبه صوت من السماء: "قم يا حسين، لجولتك الأخيرة. لقد قاتلتهم وقتلت منهم عدداً، واستشهد أهل بيتك وأصحابك إلا من قدر الله أن يبقى. قم الآن. فتحت لك أبواب السماء".
همس الحسين: "وسيف جدي الذي بيدي وجوادي، هل سيصبحان في أيديهم؟".
"عندما يأذن ربك، ارفع سيفك إلى السماء، وجوادك يعرف ماذا يفعل".
***
خاض الحسين جولته الأخيرة في الميدان يفتك بهم.
***
"ارفع سيفك الآن وترجل إلى جنتك الأبدية".
رفع الحسين سيفه فتلقفته السماء، ثم هوى هالةً من ضوء.
اسودت أطراف الأرض، واحمرت أطراف السماء، وترددت الأصوات في أرجائها: "سقط الحسين في الميدان. سقط الحسين في الميدان. سقط الحسين في الميدان".
علا صوتٌ في معسكر الأعداء: "أصيب الحسين. من يجرؤ منكم على الاقتراب منه فيقتله؟".
***
دار الجواد في الميدان حول صاحبه، يرفع من صهيله كالرعد المدوي.
علت أصواتهم مجدداً: "اقتلوا الحسين، اقتلوا جواد الحسين. من يجرؤ على قتل جواد الحسين؟".
رفع الجواد قائمتيه الخلفيتين. قفز ورفس يرفع من صهيله.
أحاط به الفرسان بخيولهم، فجعل يرمح بقوائمه ويصهل، ثم عاد إلى هالة الضوء في الميدان. دار حول الحسين مراراً وصهيله يعلو.
صاح صوتٌ من السماء: "هذا فرس الحسين من جياد خيل رسول الله. وهالة الضوء في الميدان قبس من ضوء رسول الله".
علا صهيل الجواد مرةً أخرى، ثم اتجه نحوهم!.
ردد صوتٌ خائفٌ في معسكرهم: "اقتلوا الجواد. هل عجزتم عن قتل جوادٍ لا يعقل؟".
***
تقدم نحو الجواد أشجع فرسانهم، أحاطوا به شاهرين سيوفهم ورماحهم. دار الجواد حول نفسه، ثم أخذ يرفسهم فيرديهم الواحد تلو الآخر، والحصان تلو الحصان.
علا صوتٌ أخر في معسكرهم: "يا قوم، يا رجال، أنا ابن سعد، هل عجزنا عن رجلٍ جريح وعن جواده الغاضب؟".
لم يجبه أحد.
تابع كلامه :"تقدموا نحوهما واقتلوهما!".
لم يجبه أحد.
تنهد وتابع: "أما من فارسٍ في هذا الجيش يتصدى  لجواد؟!".
انبرى فارسٌ متجهم أرعن على حصان أدهم كأنه جلمود. رفع صوته: "أرشقوه بالسهام كي أحمل عليه".
تطايرت السهام نحو جواد الحسين فأصابه بعضها، لكنه ظل يرمح ويصهل. حمل عليه الفارس فعاد نحوه، ثم أخذ يدور حوله بسرعة البرق. علت الغبار فلم ير أحدٌ ماذا يجري. 
بعد لحظات انجلت الغبار عن جواد الحسين واقفاً على قائمتيه الخلفيتين، وعن الفارس الأرعن صدَّع رأسه، وعن الحصان الأدهم بُقِرت بطنه.
***
علا صوت ابن سعد مرةً اخرى: "يا قوم، يا رجال ترجعوا عنه لنرى ماذا سيفعل، فإذا تعب اقتلوه".
***
عاد الجواد إلى هالة الضوء. مرغ ناصيته بدم الحسين، ثم توجه إلى مخيم نسائه. علا الصراخ في المخيم.
اتجه أخيراً نحو النهر.
رفع صوته ابن سعد: "يا قوم، يا رجال، لعله يريد الماء. افسحوا له، فإذا شرب اقتلوه وهو يشرب".
أفسحوا له الطريق خائفين.
خاض في النهر ولم يشرب، بل علا صهيله مدوياً. قطع النهر ولم يشرب!.
بدا من بعيد ظلاً ثم نقطة ضوء إلى أن اختفى.
علا صوت من السماء: "هذا جواد الحسين. لا يعتليه إلا الحسين، ولا يقتله سهمٌ أو رمح، ولا يشرب حتى يموت".

 

جواد الحسين - بصوت سوسن عواد:

لتحميل الملف: اضغط هنا

 

رسول قيصر

وصل موكبه إلى قصر يزيد بأبهة وفخافة. إنه موكب عظيم، يشير إلى عظمة الأمبراطور حاكم الرومان.
كانت حاشية يزيد وقادته وجنوده وخدمه وحشمه قد استعدوا لاستقبال السفير استعداداً مبالغاً فيه.
فرش السجاد الأحمر في ممرٍّ طويل من طرف الحديقة حتى الباب الرئيسي، واصطفَّ الجنود على جانبي ذاك الممر مستعدين رافعي رؤوسهم ممسكين برماحهم المركوزة بقوّة. 
وقد اصطفَّ أيضاً القادة والمقرّبون وأصحاب المراكز على جانبي الممرِّ الداخلي في باحة القصر الأولى التي تؤدّي إلى القاعة حيث ينتظر يزيد.
ترجَّل السفير عن حصانه، فترجّل بعض مرافقيه ومشوا خلفه. أما الباقون فظلوا برفقة حراس القصر في الخارج.
سار السفير وخلفه مرافقوه، على السجادة الحمراء الطويلة، بين صفي الجنود رافعي الرؤوس بأبهة وخيلاء.
فتحت لهم بوابة القصر الرئيسية، فتقدم نحوهم كبير القادة مرحباً، وظل الباقون مصطفين للترحيب والتبجيل.
طأطأ رأسه جندي أشعث الشعر حزين من جنود يزيد ، كأنه رأى أمراً لم يتوقع أن يراه.
سأله زميله: "ما بك؟".
-    متى كان الرومان يدخلون ديارنا بهذه الأبهة والتعجرف؟ ومتى كنا نسلك سلوك الملوك في القصور؟.
ضحك زميله وأجابه: "هوِّن عليك! ألست سعيداً هنا؟ ما بالك أنت؟".
-    لا لست سعيداً! أنا مسلم وأعرف كيف يجب أن يكون حاكم المسلمين. يجب ألا يكون كالملوك.
-    أهذا يحزنك؟ أنت بريء من الأمر. لا يد لك فيه. ألله أخبر بنا. نحن جنود صغار.
-    لا صغير ولا كبير أمام الله. كلنا مسؤول.
سكت قليلاً ثم تابع: "وهناك ما يحزنني ويقلقني أيضاً".
-    ما هو؟.
-    ألم تسمع بالأخبار؟.
-    أية أخبار؟.
-    أخبار كربلاء.
-    بلى! وما دخلنا نحن؟.
-    أتعرف من الذي قُتِلَ هناك؟.
-    نعم! هو ابن علي بن أبي طالب وفاطمة بنت الرسول.
أغمض الجندي الأشعث عينيه: "أتعرف من هؤلاء عند الله؟".
لم يجبه زميله. 
*********
تابع الرسول ومن معه ومستقبلوهم السير حتى وصلوا إلى يزيد بن معاوية.
وقف يزيد وسار نحو الرسول مبتهجاً مرحباً، ولم يعد إلى حيث كان حتى أجلسهم.
ابتسم بعد ذلك مرحباً.
لم يتكلم السفير.
ابتسم مرة ثانية مرحباً، طالباً من السفير الكلام.
فوجئ السفير: "أيها الملك، أعرف أنكم، أنتم معشر المسلمين، لا تبدأون بالكلام أو تدعون ضيفكم إليه قبل أن تسموا بالله وتصلوا على رسولكم. فلذلك لم أتكلم. أمّا إذا أردتني أن أبدأ بدون ذلك، فلا حرج عليَّ".
دنا منه مرافق من مرافقيه وهمس في أذنه: "لا تناده بالملك، بل بخليفة المسلمين".
تدارك السفير الأمر فالتفت إلى يزيد وقال: "لم أقصد أنك ملك بمفهومنا نحن، أنا أعرف تماماً أنك خليفة المسلمين".
ضحك يزيد بصوت مرتفع: "لا تبال بالأمر. أنا أحب لقب ملك، ألم تر أني كذلك؟".
أربك السفير، لكنه تمالك نفسه: "بلى ، بلى، بل اعظم". 
ثم حدَّث نفسه: "إنك لا تشبه المسلمين في شيء، ولم تصبح ملكاً بحق".
قطع عليه يزيد أفكاره: "مرحباً بك أيها السفير المعظم، وأهلاً بك في ديارنا. علمت أنك طلبت رؤيتي لاستئذاني بأمر ما، تفضل واعلم جيداً أن طلبك مقبول سلفاً".
-    شكراً لك. نحن نقدر هذا الاهتمام. ما أردته أن تسمح لمن يريد من النصارى العرب الذين هم من رعاياك أن يرافقوننا برحلة دينية.
ابتسم يزيد: "لك ما شئت أيها السفير، ولكن هل لي أن أعرف عن أمر هذه الرحلة؟".
هزَّ السفير برأسه: "طبعاً. طبعاً. إنها رحلة حج إلى مكان قريب حيث هناك حافر حمار عيسى، نتبرك به ونهدي إليه النذور ونعظمه".
لم يكمل السفير كلامه حتى دخل المجلس رجلٌ من مقرَّبي يزيد، مستأذناً، حتى قال كلاماً في أذن يزيد.
وقف يزيد مصفقاً: "أيها السفير أريدك أن تحتفل معنا اليوم قبل رحيلك، لقد وصلت رؤوس الأعداء وأسراهم".
دهش السفير: "رؤوس من أيها الملك؟".
-    الحسين وأصحابه.
-    الحسين، إمامكم؟.
-    ليس إمامنا.
-    الحسين، ابن بنت نبيكم؟.
لم يجب يزيد، بل أمر قادته بإدخال الرؤوس، فأدخلوها.
أمر بالكشف عن رأس الحسين، فكشفوا عنه.
رأى السفير النور يتلألأ من الرأس، إلا أن الآخرين لم يروا، فهم لا يبصرون.
وقف السفير كالملسوع: "هل هذا رأس الحسين ابن بنت الرسول أيها الملك؟".
ضحك يزيد: "نعم".
خفض السفير رأسه، ثم جثا أمام الرأس وهمس: "ألا ترى النور يشع منه؟".
نظر إليه يزيد باستغراب.
همس السفير وهو راكع: "أشهد أنك على ضلال، وأشهد أني كنت على ضلال، وأشهد أن صاحب هذا الرأس على حق، وأشهد أن لا إله إلا الله".
أمر يزيد بقتله.
تمتم رأس الحسين بكلام مسموع مفهوم واضح: "لا حول ولا قوة إلا بالله".
فجأة علا صراخ وضجيج. فتح الباب بعنف. دخل الجندي الأشعث راكضاً نحو يزيد شاهراً سيفه، والجنود خلفه يطعنونه بالرماح يحاولون إيقافه قبل أن يصل إلى يزيد. سقط صريعاً. مد يده نحو الرأس ليتلمسه، لكنها لم تصل.

قصّة رسول قيصر - بصوت سوسن عواد:

لتحميل الملف: اضغط هنا

 

قصّة رسول قيصر - بصوت فؤاد شمص

 


 

لتحميل الملف: اضغط هنا

 

في مصرعِ أبيها الحسين

أصبح أبي وحيداً في هذه الصَّحراء، لا ناصرَ له ولا معين، استشهد كلُّ من كان معه إلا عمِّيَ زين العابدين، الذي عندما سمع نداءَ أبي - هل من ناصر ينصرنا - خرجَ من الخيمة يتَّكئُ على عصاه عليلاً مريضاً، ويجرُّ نفسه ليقاتل مع أبي، فنادى أبي عمَّتي أم كلثوم طالباً منها أن تحبسه لئلا تخلو الأرض من نسلِ آل محمَّد.

أنظر إلى أبي وقد هجمَ على الأعداء يقاتلهم كالأسد رغم عطشه وحزنه ثم يعود إلينا، فتركض إليه عمتي زينب، وينزل عن جواده فترتمي عليه يحضنها. وأنا ما عدت أستطيع الوقوف في مكاني، تسبقني سكينة إليه، فيضمُّها بيمينه، ثم مدَّ لي يساره عندما رآني فارتميت عليه وطوَّقتُ رقبته بذراعيّ، وحين وضع خدِّي على خدِّه امتزجت دموعي بتراب لحيته.

قبَّلَنا مِراراً ثمَّ قام، مسحَ على رأسينا، ثمَّ مشى إلى جواده وامتطاه فدارَ الجوادُ بوجهه إلى الخيام. مسح أبي الخيام بعينيه. نظر إلى النساء والأطفال ومسح دموعه بكمِّهِ ثمَّ دارَ إلى جهة الأعداء وأطلقَ جواده كالرِّيحِ واقتحمَ الجيش بقوَّة.

انتظرْتهُ طويلاً، لقد تأخَّر ربَّما ليُحضر لي بعض الماء، سيعودُ فهو لن يترُكني وحيدةً وعطشى، ما هِنتُ عليه يوماً حتى أهون عليه الآن، سيعود ويقولُ لي: 
أنتِ تكبُرين بسرعةٍ يا سيِّدتي الصَّغيرة. فيقبلني كثيراً ويلاعبني كما هي عادته.

ها هو صهيل جواده يملأ المكان، لقد عاد، عاد أبي، ركضت وركضت، وظهر الجواد.

الجواد كان خالياً، يدور أمام المخيم ثمَّ يقفُ على قائمتيه الأماميتين ويصهل صهيلاً يصل إلى السماء، ثمَّ يعود ويركض يدور أمام الخيام وأنا أنظر إليه مصدومة، وأرى السرج عليه مُلتوياً وبقعٌ من الدماء على جسده و شعره ورقبته، أبي ليس على ظهره، فصرخت بكل ما تبقى لي من قوة:
- أبي...  أين أنت يا أبي؟.
الفرس يمرغ رأسه بالتراب ويعود يصهل من جديد صهيلاً عالياً فأركض إليه مع النساء والأطفال.

أهذه دِماؤك يا أبي، هل غادرتنا أنت أيضاً سيدي، إلى أين ذهبت وتركتني، إلى أين يا حمانا؟ أبتاه أنا بحاجة إليك، فما قيمة العمر من دونك! أريدك أبي، أريدك.

 

في مصرع أبيها الحسين - شحر شحادي


 

لتحميل الملف: اضغط هنا

 

الأصحاب

صهيل الخيول يتعالى، وغبار حوافرها ينتشر في المكان، وأنا أجلس في الخيمة مع أختي سكينة وحدنا. أفكر طوال الوقت فيما سيحدث. التفتُّ إلى سكينة فرأيتها مشغولة بالنظر من ستار الخيمة إلى شيءٍ ما يلفتُ انتباهها. 
اقتربتُ منها وسألتها: إلامَ تنظرين يا سكينة؟. فرأيت أبي وقد جمع كلَّ الأصحاب وشباب أهل البيت. كانوا يقفون بانتظام يستعدّون للبدء بالمعركة.

ومن الخيام المُجاورة ظهرت عمَّتي زينب تتبعها أمِّي تتقدَّمان نحونا على عجل، كانا يتحدثان عن الحُرِّ، هذا الفارس نفسه الذي سمعتُ أنه منعنا من الذَّهاب إلى الكوفة، جاء إلى أبي الآن منكِّساً رمحه خافضاً رأسه معتذراً ممَّا بدا منه، ثم قال لأبي أنه لم يكن يدري أنَّ الأمور ستصِل إلى هذه الحال، وقد خيّر نفسه بين الجنة مع أبي والنار مع يزيد فاختار الجنة.
 
وبدأ القتال وأصحاب أبي يقاتلون بقوَّةٍِ وعزم. فقد قال عنهم أبي: 
– لم أرَ أصحاباً خيراً من أصحابي ولا أبرَّ وأوفى، يستأنسون بالمنيَّةِ دوني استئناس الرضيع بحليب أمه.

في مخيَّمِ نساء الأصحاب صبرٌ ودعوات، فأصحابُ أبي يقاتلون ببسالةٍ شديدةٍ قبل أن يستشهدوا.
لقد بان النَّقص سريعاً في جيش أبي لقلة عدد جنوده ولكن مهما قتل من جيش الأعداء لم يكن يظهر تناقص عددهم لكثرتهم.
حتى في وقت الصلاة لم يكفُّوا عن رمينا بالسِّهام، فكانت الشهادةُ من نصيبِ سعيد الحنفيِّ وهو يتلقى السِّهام دفاعاً عن المُصلين.

كانت تصل إلى مسامعي أسماء شهدائنا، سمعتُ عن بعضهم كثيراً أو قليلاً، ولكنني أشعر أنني أعرفهم جميعاً معرفة الآباء والأخوة لكثرة ما مدحهم أبي على اختلاف أعمارهم شيوخاً وشباباً. جميعهم أحبهم أبي، وسيبكيه فراقهم فهم خلَّص أصحابه، وأنا أبكي كلما تصوَّرت حال أبي إذا ما سمع اسماً من أسماء أصحابه الذين يستشهدون.  

 

قصّة الأصحاب  - بصوت سوسن عواد:

لتحميل الملف: اضغط هنا

 

قصّة الأصحاب - بصوت فؤاد شمص

 


 

لتحميل الملف: اضغط هنا

 

قمر بني هاشم

-    أين أنتِ يا رفيقة الدرب الطويل؟ أين أنتِ يا رفيقة الأحزان والعطش؟ أين أنت يا سكينة؟ إنها ولا بد عند عمِّيَ العباس، فأنا طوال رحلتنا كلما فقدتُ سكينة وجدتها تسعى إليه كأنَّ عطشها إليه لا يرتوي.

جميعنا نحبُّ البقاء عند قمر بني هاشم، فالنظر إلى عينيه يرفع الهم ويزيل الحزن، وسكينة في كل هذا الكرب العظيم أحوج ما تكون إليه. عليَّ أن أبحث عنها بالقربِ منه، فأنا كذلك محتاجة لمرآه.
 
خرجت أبحث بين الخيام فوجدتهما، وكلما اقتربت كلما تركني همي وخفَّ تعبي، فعمّنا العباس هو الروح والأمان. اقتربت منه والتصقت بقامته المديدة فرفعني إليه وحضنني، عندها سمعت سكينة تخبرني بفرح أنَّ عمنا العباس سيذهب إلى أبي يستأذنه كي يجلب لنا الماء.
نزل بقامته الطويلة وضعني على الأرض ورفع بيمينه وجهي وقال لي: 
– سأجلب لك الماء يا رقية كما في المرة السابقة، فاصبري. 

لكن أبي لم يكن راغباً في خروجه الآن فقد كان يقول له بأنك يا أخي حامل لوائي وإذا مضيت تفرق عسكري. 
لكن عمّي ألحَّ عليه بالرجاء.
وبعد إلحاحه، أذن له أبي فتوجّه إلى حيث الجيش الذي يغلق الطريق إلى النهر، فكان الجنود يُقتلون أو يفرّون من بين يديه، ثم اختفى بين بستان النخيل والجنود فلم أعد أراه، أصبح خلف الجيش.
فجأة سمعنا صوت عمّي العباس ينادي بأن عليك مني السلام يا أبا عبد الله. 
وقفت مذهولة أكاد لا أعي وأنا أنظر إلى أبي وقد تغيَّر لونه وصرخ بأعلى صوته: 
– يا أبا الفضل.
اقتحم أبي الجيش، كالأسد الغاضب وهو يتجه إلى مصدر الصوت هناك بين النخيل.

لقد غدروه من الوراء، ثم قطعوا يمينه بين النّخيل فقاتلهم بيساره. ومن خلف نخلة أخرى غدروه ليقطعوا يساره، فسقط سيفه وانهالت عليه السهام كالمطر واختلط ماء القربة بدمائه.
آه يا عماه، حق على أبي أن يقول بعد مصرعك أن  الآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي، وشمت بي عدوي.

 

قصّة قمر بني هاشم - بصوت سوسن عواد:

لتحميل الملف: اضغط هنا

 

قصّة قمر بني هاشم  - بصوت فؤاد شمص

 


 

لتحميل الملف: اضغط هنا


      

مُسلِم بن عقيل

مرَّ وقتٌ طويلٌ منذ خروجِنا من مكَّة، لقد سألتُ مِراراً متى نصلُ إلى وجهتنا، حتى بتُّ أستحي من تكرار هذا السؤال وسكينة تجيبني مرَّة تِلو أخرى بعد أن تكون قد سألت بدورها. 

قال لي أبي أنها مدينة تسمَّى الكوفة، وتقع في وسط العراق على ضفاف نهرٍ يسمى الفرات، أسمع عن الكوفة وأعرفها فبقربها قبر جدِّي أمير المؤمنين علي عليه السلام.
أظن أنَّنا أصبحنا على مقربة، فبعد هذه الاستراحة سننطلق إليها.

كان معنا في الرَّحلة حميدة، ابنة مسلم بن عقيل، ابن عمِّ أبي، وكان أبي يحبُّه كثيراً.
نظرت أبحث عنها فرأيتها تقف هناك، تنظر إلى الصحراء المُمتدَّة الأطراف، أعلم ما يعتريها وبمَ تفكر، فقد خرج والدها مسلم قبلنا إلى الكوفة وهي مشتاقة لرؤيته، متمنية أن تغمض عينيها وتفتحهما فتجد نفسها في الكوفة وبين أحضان أبيها.

فجأة، نشطت حركة بالقرب من خيامنا، هناك زائر غريب في خيمة أبي، أسرعت في سيري رأيت على الوجوه دهشة وبكاء. يا ربِّ ما الذي يحدث؟ بالله عليكم أخبروني. ركضت إلى سكينة.
- أخبريني يا أختاه ما الذي يحدث أرجوك.
- لقد قتلوا عمَّنا مسلم يا رقيّة. قتلوه.
- كيف حدث ذلك؟.. هذا لا يُصدَّق، وآلاف الرجال الذين كاتبوا أبي يطلبون منه القدوم، ألم يكتب عمَّنا مسلم لأبي أنَّ الكوفة وآلاف الرجال في انتظاره؟ إنَّ ما تقولينه بعيد عن التصديق.

ظللتُ أستمع إلى سكينة وهي تروي لي ما سمعته، وأنا مذهولة ممَّا أسمع، فلقد خاف أهل الكوفة من سطوة عبيد الله بن زياد وعمر بن سعد، والآلاف الذين اجتمعوا حول عمِّي مسلم بدأوا بالابتعاد عنه، وقُتِلَ الرِّجال الخلّص وسُجنوا، حتى بات عمِّي مُسلم وحيداً، وخرج من المسجد حتى وصل إلى بيت امرأة اسمها طوعة، فتحت له باب بيتها وسقته ماءً ولمَّا لم يغادر سألته عن سبب وقوفه أمام باب منزلها، وبكت حين علمت أنه مسلم أبن عقيل، لطمت وجهها أوَهكذا يعامل ابن عمِّ الرسول!.

أدخلتهُ إلى منزلها، وأنِست طوال الليل بصوتِ دعائه وتلاوته، إلى أن أتى ابنها ووشى به، فهجم الجنود على المنزل ولم يقدروا عليه فاضطروا إلى حفرِ حُفرةٍ أوقعوه فيها وأخذوه أسيراً إلى القصر، وقتلوه وروموه من السطح، وجرُّوا جسده في شوارع الكوفة.

آهٍ لحال حميدة، وأنا أنظر إليها تضع رأسها على صدر أبي الذي يمسح بيده الكريمة عليه وهو يقول: 
- أنا أبوكِ يا حميدة وبناتي أخواتك.  

 

قصّة مسلم ابن عقيل - بصوت سوسن عواد:

لتحميل الملف: اضغط هنا

 

قصّة مسلم ابن عقيل - بصوت فؤاد شمص

 


 

لتحميل الملف: اضغط هنا

 

من يحفر قبراً للضوء

وقف ابن زياد على باب السجن وخاطب الإمام زين العابدين ساخراً منه: "...والآن، يا علي، أنت والنساء عندي أسرى، ورأس أبيك ورؤوس أصحابه عندي، وأجسادهم في كربلاء ستأكلها الوحوش والطيور الكاسرة، وغداً سنرسلكم إلى مولاي يزيد. ماذا ستفعل بجسد أبيك، قبل أن تأكله الوحوش أخبرني؟".
رفع زين العابدين نظره إلى الأعلى وقال، كأنّه لا يوجه كلامه إليه: "الوحوش... ستحرس جسد أبي الحسين، وأجساد الذين استشهدوا معه، والطيور الكواسر ستظللهم إلى أن يدفنوا".
أجاب ابن زياد مستهزئاً: "ما زلت تعتقد انّكم الأئمة! ها قد قتلنا أبيك الإمام، ولم يبقَ منكم إلّا أنت، وأنتم تقولون أنّ الإمام لا يدفنه إلا إمام، فكيف ستدفن أبيك ليصحّ قولكم أنّكم الأئمة؟".
ردّ زين العابدين بنفس الطريقة مرة جديدة رافعاً بصره إلى الأعلى: "صدقت، نحن الأئمة، والإمام لا يليه إلا إمام، وأنا الإمام بعد أبي وسأدفنه اليوم بنفسي".
قهقه ابن زياد: "تدفنه؟ أنت! جسده في كربلاء ورأسه معي، وأنت في سجني وتدفنه أنت؟".
-    نعم.
قهقه ثانيةً: "إنك تهذي".
رد زين العابدين بصوت كأنّه لا يخرج من صدر الإنسان، كأنّه يهبط من السماء فيملأ الأرض والكون: "سأدفنه اليوم وسأعيد الرأس لألحقه به، أما أنت فستتحقق من الأمر تماماً ولكنك لن تنته عن غيك".
قهقه ابن زياد طويلاً وعاد إلى مجلسه.
***
دنت السيدة زينب من ابن أخيها زين العابدين، وهمست: "متى ستدفن الأجساد؟".
أجابها: "الساعة يا عمة".
ابتسمت له: "كيف؟".
-    أغمضي عينيك فافتحيهما أكون قد فعلت.
أغمضت السيدة زينب عينيها ففتحتهما فرأته مكانه، لكن على ثيابه علقت بعض الرمال.
ابتسمت ثانيةً: "إني أشم فيك رائحة أخي الحسين".
***
في صبيحة اليوم التالي عاد ابن زياد إلى الإمام زين العابدين، نظر إلا وجهه ولم يتكلم. فاجأه زين العابدين: "تكلم يا ابن زياد! علمت أنك أرسلت من يتحقق من الأمر، وقد ذهب رجالك فوجدوا قبر أبي لأنني علمته بعلامة، ورأوا قبر عمي العباس، وقبور بقية الشهداء، وحاولوا نبش قبر أبي فقتلت العقارب والأفاعي ثلاثةً منهم وفر الباقون، وقد أخبروك لتوّهم، وأعلموك بأنَّ الوحوش حرست أجساد الشهداء والطيور ظللتهم... وأخبرهم الرجال في ظهر كربلاء أنني أنا دفنت أبي بيدي".
ظل ابن زياد واقفاً مندهشاً.
-    تكلم يا ابن زياد. هل علمت الآن أننا أئمة الله؟.
رد ابن زياد وقد طأطأ رأسه: "والرأس يا ابن الحسين، كيف ستلحقه بالجسد؟".
-    كما دفنت الجسد.
رفع ابن زياد صوته: "متى؟ هو عندي وسأرسله إلى الشام".
-    سأعيده بعد أربعين يوماً من استشهاد أبي. سألحقه بجسده لأنني أنا الإمام وأبي لا يليه إلا إمام.
خفض ابن زياد جبينه أكثر من قبل. ثم سأل كمن يحدث نفسه: "وكيف علمتم أنني تحققت من الأمر وأن رجالي عجزوا عن نبش القبر وأن ثلاثةً منهم قتلوا؟ كيف؟ من أخبركم؟".
-    أخبرني الذي مكَّنني. وقد أخبروك أيضاً أنهم رأوا الضوء ينبلج من القبور، وأنهم خافوا وارتعدوا وأنَّ عشرةً منهم لم يعودوا إليك.
بدا الغضب فجأةً على وجه ابن زياد فارتفع صوته كأنه يوجه الكلام إلى نفسه: "كيف فعل ذلك ابن الحسين؟ كيف فعل ذلك ولم يغب لحظةً عن عيون الحراس؟".
-    اهدأ يا ابن زياد. لقد جعل الله اللحظة لي يوماً فأسرى بي إلى كربلاء وأعادني.
زمجر إبن زياد غاضباً: "ولماذا عدت إلى السجن إذا كنت خارجه؟".
-    كي أبقى مع النساء والرؤوس، لأرافقهم ذهاباً وإياباً، فيراهم الناس ويروني ويرون الحق. تذكر جيداً يا ابن زياد كلامي! سأعيد الرأس وألحقه بالجسد بعد أربعين يوماً من استشهاد أبي.
علا صوت ابن زياد وبدا وكأنه قد جُنَّ: "بالطريقة اياها يا بن الحسين؟".
-    بل كما سيذهب. سيراه الناس في ذهابه وإيابه وسيتحدث مع من يجب أن يحدثه، وسألحقه بالجسد أمام الناس بهدوء وهم يرون وأنت تسمع.
طأطأ ابن زياد رأسه ثم أدار ظهره وغادر بصمت، لكنه فجأةً انتفض كالملسوع وأخذ يزمجر من جديد: "كيف فعلت ذلك يا بن الحسين؟ من أخبرك؟ من مكّنك؟ كيف؟ كيف؟ كيف؟".

 


يومٌ بلا فجر

هبط المؤذن عن المئذنة وقد بدا شاحباً.
قال لمن جاء مبكراً إلى المسجد ليصلي الفجر:" ألا ترون أن الفجر تأخر عن موعده؟ مضى على وقوفي فوق المئذنة وقتٌ طويل، والله إن الأمر لغريب!".
ابتسم واحدٌ منهم وقال: "هل يتأخر الفجر؟ ما هذا الكلام؟".
رد آخر: "بلى، والله أشعر أنه تأخر".
تأفف ثالث: "ما لكم وللفجر؟ سيأتي حين سيأتي".
***
طال انتظارهم في المسجد والدنيا مظلمة، لا يرون علامةً واحدة من ضوء يُنبئ بالفجر!.
علت الأصوات ثانيةً: "ألا ترون أن المدينة استيقظت والناس في الشوارع تسأل وقد أخذتها الدهشة؟".
رد الشيخ: "أما قلت لكم تأخر الفجر؟".
-    هل أطفئت الشمس؟.
-    اتقِ الله يا رجل.
-    لا اله إلا الله... هل كفرنا؟ لم تشرق الشمس.
***
تناهى إلى المسجد صوتٌ من الخارج: "يا أيها المؤمنون، لا ندري ماذا أريد بنا! الدنيا ظلام. لا فجر ولا قمر ولا شمس. استغفروا الله وأكثروا من الأدعية. أعوذ بالله من غضب الله. ماذا أريد بنا؟".
رد البعض: "هل دنت الساعة؟".
-    استغفر ربك يا رجل. هل تدنو الساعة وعلى وجه الأرض مخلوقٌ حي؟.
-    إذاً ماذا حلّ بالسماء؟.
-    لا حول ولا قوة إلا بالله.
***
تناهت من السماء إلى الأرض زمازم. لم يفقهوا منها شيئاً، ثم تحولت إلى نحيب.
علت الأصوات ثانيةً: "استغفروا الله يا مؤمنون، وادعو الله كي يرفع عنا البلاء".
خرج الرجال من المسجد إلى صحنه.
دنا رجلٌ من الشيخ: "ما قولك يا شيخنا؟".
-    الله أعلم يا أخي. الله أعلم. أعوذ بالله.
-    أنظر يا شيخنا إلى طيور الحمام فوق القبة وعلى الأسطح. ألا تراها واجمة؟.
-    الله أعلم. 
***
فجأةً اجتاحت الشارع قبالتهم أعدادٌ من الجمال الهائجة، تلتها جيادٌ غاضبة، ثم اشتدَّ الظلام.
صاح الشيخ: "ارفعوا أيديكم إلى السماء وادعوا الله يكشف عنا البلاء".
تظافرت الأصوات بالدعاء.
***
وهم على هذه الحال فإذا بها تمطر. صاح رجل يحمل سراجاً: "إنها تمطر ماءً أحمر".
ردَّ عليه آخر:" بل هو دم، إنها تمطر دماً".
أخذتهم الدهشة. تكتلوا كأنهم رجلٌ واحد. انضمت إليهم مجموعات الرجال والنساء والأطفال. تعلقوا بأطراف بعضهم بعضاً. شهق الكثيرون بالبكاء خوفاً وحيرة، وظلَّ آخرون يرفعون الدعاء. غشي على بعضهم إلى أن صاح الشيخ مجدداً: "يا رجال، يا مؤمنون، فلنصل لله لرفع البلاء".
وهم يستعدون للصلاة فإذا بالسماء تومض. نظروا إلى الأعلى فرأوا نجوماً تتصادم وتنفجر. رفع الشيخ صوته ثانيةً: "كبروا واستغفروا وأسرعوا إلى الصلاة".
***
ما إن أكملوا صلاتهم حتى اهتزت الأرض بهم، وتصاعد غبارها، وهبت ريحٌ حارة يصحبها صفير غامض. لاذ الأطفال بأذيال أمهاتهم، والرجال بأكتاف بعضهم بعضاً إلى أن وصل رجلٌ ليصيح: "يا رجال، يا مسلمون، يا مؤمنون. أم سلمى، زوجة الرسول، تنتحب في منزلها!".
أسرع الرجال والنساء إلى بيتها فإذا بها تلطم وتندب وتبكي.
سألها الشيخ: "ما بك يا أم سلمى، يا زوجة الرسول، يا أم المؤمنين؟".
لم تجب.
أعاد السؤال باكياً.
ردت وهي تنتحب: "جاءني رسول الله في المنام وهو أشعث مغبراً وعلى رأسه تراب فسألته:" يا رسول الله ما لي أراك أشعث مغبراً؟".
قال بأعلى صوته: "قتل ولدي الحسين في كربلاء".
رفع الشيخ صوته: "قتل الحسين، قتل الحسين".
ردد الرجال: " قتل الحسين، قتل الحسين".
ارتفعت الأصوات بين الجموع إلى أن أصبحت صوتاً واحداً: "قتل الحسين. قتل الحسين".
أجابتهم السماء بأصواتٍ هادرة: "قتل الحسين، قتل الحسين، قتل الحسين". 

 

قصّة يومٌ بلا فجر - بصوت سوسن عواد:

لتحميل الملف: اضغط هنا

 

فاطمة العليلة

أقف أمام نافذة الغرفة، لقد حلَّ الليلُ بردائه الأسود. الليل طويلٌ منذ مرضتْ فاطمة أختي. كنتُ أراقب النجوم والقمرَ إلى أن طلبت مني أختي سكينة أن أخلد للنوم.

توجهتُ إلى مرقدي وأنا أدعو لفاطمة بأن تُشفى. أنا أعلم أن شيئاً ما ليس على ما يرام، فقد مضت شهورٌ ثلاثة منذ خرجنا من مدينة جدي رسول الله حتى وصلنا إلى مكة، وقد ظننت أننا سنبقى هنا حتى نؤدّي فريضة الحج، ولكن يبدو أننا سنسافر عن جديد.

علمتُ أنَّ أيّاماً ثلاثةً تفصلنا عن موعد الإنطلاق، ولكن هل ستقدرُ أختي فاطمة أن تسافر معنا هذا السفر الطويل، فهي حتى الآن لا تقدر حتى على الوقوف.

مضت الأيام الثلاثة سريعاً هو ذا اليوم الموعود، ولكنَّ الأيام لم تأتِ بأيِّ جديد فحال فاطمه قد ساء كثيراً وعلمنا جميعاً أنها سوف لن تستطيع الذهاب معنا، بل ستبقى وحدها هنا. أعلم أنها ستبقى مع خالتي أم سلمة، ولكنها كانت تنظر إلينا بعينين دامعتين وتتوسل أن نأخذها معنا ولكنّنا جميعاًً نعلم أن لا طاقة لها على هذا السفر الشاق.
 
قال أبي الإمام الحسين إنَّ وقت المسير حان، ودَّعتُ عمَّتي أم سلمة وعمَّتي أم البنين التي وعدتني أن تهتم بفاطمه أيضاً، واقتربتُ من أختي أريد وداعها وقفت أمامها يابسة بلا حراك والدموع تسيل من عينينا معاً، اقتربت منها حضنتني بكل روحها.
 
حاولت فاطمة الوقوف علها تقنع عمتي زينب أنها بخير، ولكنها سرعان ما وقعت، فأعادتها عمتي إلى فراشها، ودَّعتها قبلتها وهي تبكي، وتوجَّهنا  إلى الرَّكب، أجلسني أخي علي في محملي، أراد كذلك أن يُجلس عمَّتي زينب لكنها طلبت عمّي العباس أن يجلسها. ترك عمي ما كان مشغولاً به تقدم نحو عمتي زينب ساعدها على الركوب، ثم تأكد أن الركب جاهز، فأومأ لأبي كي يأمر الركب بالمسير.
 
سرنا قليلاً ولكنَّ صراخاً من الخلف تسلل إلى كل الآذان:
-  أبتاه، كيف تتركونني وحدي، خذوني معكم.        
نظرت خلفي وإذا بي أراها أختي فاطمه تزحف خارخاً من باب الدار تبكي وتتوسل من جديد.
عاد أبي إليها ضمها بقوة إلى صدره، قبلها وودعها، ثم ركب جواده وهي تنظر إليه والدموع تنهمر من عينيها، وكيف لا وهي تعلم أنها ستمسي وحيدة من دون أبي، وهل من رأى أبي مرة واحدة يستطيع فراقه. كيف وهي قطعة من قلبه، كيف لها أن تستطيع فراقه.
سار الركب إلى العراق، لسنا ندري ما ينتظرنا، وفاطمه العليلة بقيت وحدها، مع الشوق والمرض. 

 

قصّة فاطمة العليلة - بصوتزهراء قصير:

لتحميل الملف: اضغط هنا

 

برامج
8027قراءة
2020-08-19 16:33:31

إعلانات

 

 

12 سنة من العطاء

إستبيان

تواصل معنا