الكتاب: دروس تمهيدية في ولاية الفقيه
الدرس السابع: الأدلّة النقليّة على ولاية الفقيه
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يستدلّ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ضرورة ولاية الفقيه.
2- يستدلّ على ولاية الفقيه من خلال الروايات ولا سيما مكاتبة إسحاق بن يعقوب.
3- يبيّن كيفية الاستدلال على ولاية الفقيه من موثّقة عمر بن حنظلة.
الفیديو بجودة منخفضة لإرساله عبر الواتساب:
تمهيد
ورد في العديد من الأحاديث عن أهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام) روايات تتحدّث عن ولاية الأمر في عصر الغيبة، وقد تعرّض لها الفقهاء متنًا وسندًا، فمنهم من قبلها وتمسّك بها لإثبات الولاية للفقيه الجامع للشرائط، ومنهم من توقّف عندها.
والأدلّة منها ما يتحدّث عن دور الفقهاء ومقامهم، ووظيفتهم تجاه الأمّة الإسلامية في عصر الغيبة الكبرى، ومنها ما هو واضح وصريح في عملية التعيين والتنصيب للفقيه الجامع للشرائط، وفيما يأتي نعرض جزءًا منها.
الدليل العام: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر1
إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من أهمّ دعائم الأمن العام، وأوثق ركائز العدل، فهو ضمانة بقاء السنّة الشريفة، وإماتة البدعة. وفي ذلك يقول الإمام الباقر عليه السلام: "... إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سبيل الأنبياء، ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة، بها تُقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتحلّ المكاسب، وتردّ المظالم، وتعمر الأرض، وينتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر..."2.
فإقامة المعروف والنهي عن المنكر هدفين عظيمين، بل هما من أهمّ الأهداف التي ينشدها الدين، وقد قدّم أئمّة المسلمين أرواحهم في سبيل ذلك.
وإنّ أدلّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تُعتبر من الأدلّة البيّنة والواضحة على ضرورة قيام الحكومة الإسلاميّة، حيث إنّ الحكومة بسلطاتها وأجهزتها، هي المصداق الأكمل والأكثر فعالية لتحقيق هذا الهدف العظيم. فالغاية من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي حفظ الإسلام والمسلمين، وإنّ أهمّ وسيلة لإقامة أحكام هذا الدين وحدوده وحفظ الحقوق والدماء والأعراض، هي الحكومة الإسلامية. هذه الحكومة التي تعتبر الضمانة الأكيدة لتطبيق الأحكام والتشريعات الإلهية في كل تفاصيل الحياة الفردية والاجتماعية.
وهذه الحكومة الإسلامية لا يمكن أن تستقيم وأن تبلغ أهدافها المرجوّة من حفظ الإسلام والمسلمين إلا بوجود قيّم ومدير على رأس هذه الحكومة، من أجل ضمان تطبيق التشريعات والأحكام الإلهية كما أمر الله تعالى، وهذا القيّم ليس سوى الفقيه العادل، العالم بأحكام هذه الدين، الجامع للشرائط، لأنه الأعرف والأعلم بأحكام الدين والأقدر على تحقيق الأهداف المنشودة للدين وطُرق تحقيقها والوصول إليها، وهو الأقدر أيضًا على نشر العدل، ومنع الظلم والفساد. أما تنصيب غير هذا الفقيه ليكون على رأس الحكومة الإسلامية فهو يعني بطبيعة الحال ضياع للأهداف الإسلامية المنشودة.
والخلاصة: إنّ الحكومة الإسلامية، وعلى رأسها الفقيه الجامع للشرائط، هو المصداق الأكمل والأبرز للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فبوجودهما يُحفظ الإسلام والمسلمون، وتكون الحكومة درعًا واقيًا وحصينًا مما يمكن أن يُفسدهما.
الفیديو بجودة منخفضة لإرساله عبر الواتساب:
الأدلّة الخاصّة: الروايات
وردت العديد من الروايات عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة المعصومين، نشير إلى بعضٍ منها:
1- الروايات الدالّة على دور ومقام الفقهاء:
وردت العديد من الروايات في حقّ الفقهاء، وعبّرت عنهم بأنّهم حفظة الدين والأمناء وورثة الأنبياء، وهذه التعابير جاءت لأجل بيان وظائفهم ومسؤولياتهم ودورهم في عصر الغيبة، وليس لمجرّد زيادة الألقاب أو زيادة الفضل، فإنّ هذا الأمر بعيد عن النبي والإمام عليه السلام.
فقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "اللهم ارحم خلفائي!
فسُئِل: يا رسول الله، ومن خلفاؤك؟
قال: "الذين يأتون من بعدي، يروون حديثي وسنّتي، فيُعلِّمونها الناس من بعدي"3.
إنّ هذه الرواية تشمل الأفراد الذين سعوا إلى تحصيل الاجتهاد لاستنباط الأحكام والعلوم الإسلاميّة من القرآن والروايات وتعليمها للناس، لا أنّ دورهم كان فقط نقل الروايات وتاريخ الإسلام وبيان الأحكام. إنّ لكلمة "الخليفة" معنًى واسعًا جدًا، وإنّما يصحّ إطلاق لقب الخليفة على الشخص إنْ كان يمكنه القيام بوظائف ومسؤوليّات من يخلفه، ونحن نعرف أنّ من وظائف النبي صلى الله عليه وآله وسلم إبلاغ الأحكام وبيانها وإدارة الحكومة الإسلاميّة والمجتمع الإسلامي. وعليه، فالفقهاء هم خلفاء النبي في تمام شؤونه، عدا تلقّي الوحي.
عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "الفقهاء أمناء الرسل، ما لم يدخلوا في الدنيا"، قيل: يا رسول الله، وما دخولهم في الدنيا؟ قال: "اتّباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم"4.
لقد عرّف النبي الفقهاء في هذه الرواية بأنّهم أمناء من قبل الأنبياء، بمعنى أنّ وظيفة الفقهاء العدول القيام بكلّ الأمور التي هي من وظيفة الأنبياء، وعليه يمكن لنا أن نقول إنّ الفقهاء مكلّفون بـ : إجراء القوانين، قيادة الجيش، إدارة المجتمع، الدفاع عن أحكام الإسلام، والقضاء.
وفي رواية أخرى عن علي بن حمزة عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) في مقام بيان ما يرد على الدين من نقص عند موت العالم، يقول: "لأنّ المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصن سور المدينة لها"5.
ففي هذه الرواية يخبر الإمام الكاظم (عليه السلام) أنّ حفظ عقائد وأحكام الإسلام هو من وظيفة الفقهاء، ومن الواضح أن تشكيل الحكومة الإسلاميّة وتولّي الفقيه رأس أمور المجتمع هو من أفضل أنواع الحفاظ على حرمة الإسلام، لأنّ الفقيه الذي لا يستلم زمام الحكومة ولا يتدخّل في الأمور الاجتماعيّة والقضائيّة والسياسيّة لا يسمّى "حافظ الإسلام"، و"حصن الإسلام".
ومن هنا سوف نستعرض بعض الروايات التي تشرح وظيفة ومسؤوليّات الفقيه، وإثبات مقام الولاية للفقهاء، وهذه تتمّة الروايات.
2- رواية عمر بن حنظلة:
ورد في مقولة عمر بن حنظلة: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا، بينهما منازعة في دَينٍ أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة، أيحلّ ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل، فإنّما تحاكم إلى الطاغوت، وما يُحكم له، فإنّما يأخذ سحتًا، وإن كان حقًا ثابتًا له، لأنّه أخذه بحكم الطاغوت، وقد أمر الله أن يكفر به، قال الله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ﴾6. قلت: كيف يصنعان؟ قال: ينظران إلى من كان منكم ممّن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكمًا، فإنّي قد جعلته عليكم حاكمًا، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه، فإنّما استخفّ بحكم الله، وعلينا ردّ، والرادّ علينا كالرادّ على الله، وهو على حدّ الشرك بالله"7.
في بداية الرواية بيّن الإمام الصادق عليه السلام حكمًا كليًّا وعامًّا، هو أنّ كلّ من يتحاكم إلى الطاغوت سواء أكان محقًّا أم غير محقّ، فما يأخذه سحت وحرام، وهذا الحكم من الأحكام السياسيّة في الإسلام التي تمنع الناس من مراجعة القضاة وحكّام الجور، وتكون نتيجة ذلك حصار التشكيلات القضائيّة والحكوميّة للجور والجائرين وانزوائهم، وتمهِّد الطريق لتحقيق تشكيلات قضائيّة إسلاميّة، وهذا الحكم هو عبارة أخرى عن الدفاع السلبي ضدّ حكم الجور، ودعوة إلى تشكيل حكومة وقضاء يتمتّعان بمشروعيّة إلهيّة، وهذا الحكم فيه عموميّة تشمل حتى زمان غيبة المعصوم (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
وأمّا في القسم الثاني من الرواية، فقد سُئل الإمام عليه السلام عن تكليف الأمّة، وأنّه إلى من يرجعون في مقام الاختلاف. والإمام (عليه السلام) عند جوابه أوضح مشخّصات من يرجع إليه، وهذه المشخّصات إنّما تصدق على المجتهد الجامع للشرائط، فهم المنصّبون من قبله للقضاء والحكومة.
وهذه الرواية تثبت مقام الولاية والقيادة للفقيه، مضافًا إلى منصب القضاء، وقد قال عليه السلام: "فإنّي قد جعلته عليكم حاكمًا"، أي إنّ ولاية الفقيه الجامع للشرائط هي ولاية مجعولة من قبل الإمام المعصوم (عليه السلام)، ولذا استخدم الإمام كلمة "جعلته"، فلو كان مراد الإمام الصادق (عليه السلام) جعلهم في منصب القضاء فقط، لكان ينبغي أن يستعمل كلمة "بينكم" بدل كلمة "عليكم"، ولذا يقول الإمام (عليه السلام) إنّي قد جعلته عليكم حاكمًا لترجعوا إليه في الأمور القضائيّة والحكوميّة، لأنّه متى كان حاكمًا كان قاضيًا. نعم، موضوع النزاع الوارد في الرواية، وإنْ كان هو الدِّيْن أو الميراث أو القضاء وفصل الخصومة، ولكنّ الإمام صدر منه نفي ولاية حكّام الجور، ونصّب الفقهاء لمنصب القيادة والحكومة.
3- مكاتبة إسحاق بن يعقوب:
وصلت روايات عن الأئمّة (عليهم السلام) تُحدِّد وظيفة الشيعة في زمان غيبة المعصوم، ومن جملة الروايات: التوقيع المنقول عن الإمام صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف في جوابه لإسحاق بن يعقوب لمسائل سألها منه عجل الله تعالى فرجه الشريف.
"وأمّا الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة الله عليهم"8.
ففي هذه الرواية حدَّد الإمام وظيفة الأفراد في الحوادث الواقعة، وطلب منهم الرجوع في كلّ واقعة فرديّة أو اجتماعيّة، أو سياسيّة أو حكوميّة إلى رواة الحديث، أي الفقهاء. وعن الشيخ الأنصاري أنّ المراد من الحوادث ظاهرًا هو مطلق الأمور التي لا بدَّ من الرجوع فيها للناس بنظر العرف أو العقل أو الشرع من الرجوع إلى الحاكم، وليس المراد منها فقط مسائل الحلال والحرام9، وذلك من جهات:
أ- إنّ الإمام أرجع الناس إلى الفقهاء في أصل الحوادث الواقعة لا في أحكامها، أي لم يقل ارجعوا في أحكام الحوادث للفقهاء حتى نقول إنّ الفقهاء حجّة في بيان الحلال والحرام والفتوى دون الأمور السياسيّة والاجتماعيّة، وإنّما قال ارجعوا في الحوادث نفسها للفقهاء.
ب- إنّ المستفاد من قوله (عليه السلام): "فإنّهم حجّتي عليكم"، هو كون الفقهاء منصّبين من قبل الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) في مورد الأعمال التي ترجع إلى شؤون الإمامة والقيادة، ولو كان وظيفة الفقهاء فقط بيان الأحكام الإلهيّة لكان المناسب أن يقول الإمام "فإنّهم حجج الله"، لأنّه كما أنّ الإمام هو حجّة الله، لأنّه مبيّن للأحكام الإلهيّة فالفقهاء حجج الله لا حجّة الإمام، وإنّما يصحّ أن يقال للفقهاء أنّهم حجّة إمام الزمان إذا كانت وظيفتهم القيام بالأمور التي يقوم الإمام بها بنفسه حال حضوره.
ج- إنّ مسألة الرجوع إلى الفقهاء في مسائل الحلال والحرام وتبيين الأحكام كانت من المسائل الرائجة ومن بديهيّات الإسلام، وذلك بخلاف المسائل الاجتماعيّة والسياسيّة التي ترجع للمصالح العامّة للمسلمين، فأشكل أمرها عليهم، فإنّ السؤال عنها طبيعي، وقد جعلها الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف للعلماء والفقهاء، وأصدر أمره للمسلمين بالرجوع إليهم.
______________________________
1- لقد اُعتُبِر وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الواجبات التي اتّفق المسلمون جميعًا على وجوبها في الشريعة الإسلامية، واستدلّوا عليها بأدلّة متواترة في الكتاب والسنّة، إضافة إلى دليل العقل.
2- الشيخ الكليني، الكافي، ج5، ص56.
3- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج18، ص101.
4- الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص37.
5- م.ن، ص47.
6- سورة النساء، الآية 60.
7- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج18، ص99.
8- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج18، ص101.
9- الأنصاري، مرتضى، كتاب المكاسب، ج3، ص555.