الدرس العاشر: طرق تعيين الولي (2)
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرض نظرية التصدّي والانتخاب مبيّنًا المراد منهما.
2- يناقش نظرية التصدّي.
3- يقدِّم نقدًا لنظرية الانتخاب.
تمهيد
لقد تمّ في الدرس السابق عرض نظريّتين اثنتين ومناقشتهما، وفيما يأتي نعرض نظريّتين أخريين للمناقشة، وهما نظريّة التصدّي ونظريّة الانتخاب.
نظرية التصدّي
إنّ هذه النظريّة تعني أن يقوم أحد الفقهاء الذين تجتمع فيهم الشروط والأهليّة للولاية بالتصدّي لهذا الأمر، فيكون الحكم له، لكونه الأسبق بين نظرائه من الفقهاء، فإنْ سبق غيره في التصدّي للحكم والولاية، فلا يجوز لأحد غيره من الفقهاء أن يزاحمه في دوره، ويكون الأمر له دون غيره.
مناقشة النظرية:
لقد دلّت النصوص والروايات على أنّ مقام الولاية مختصّ بالفقهاء الذين تتوفّر فيهم شروط معيّنة1، فكلّ من تتوفّر فيه الشروط التي أشار إليها أهل العصمة عليهم السلام هو أهلٌ أن يكون وليًّا وحاكمًا، ولكن ما لم تدلّ عليه النصوص هو أن يكون التصدّي لهذا الأمر كافيًا كي يصبح الفقيه وليًّا بالفعل، ومانعًا من تصدّي الفقهاء الآخرين، فالروايات لم تتكفّل بيان الولي الفعلي، بل تكفّلت بيان من فيه أهليّة الولاية من خلال توفّر الشروط فيه. وعليه، فلا دليل في النصوص الشرعيّة على أنّ التصدّي هو طريق يصبح من خلاله الفقيه الجامع للشرائط وليًّا بالفعل.
متى ينفع التصدّي؟
نعم، إنْ تصدّى الفقيه، وسلّم له الآخرون بقيادته، وتوفّرت فيه الشروط، ولم يتصدَّ غيره لهذا العمل، فإنّ هذا الفقيه يكون هو الولي الفعلي، ولكن ليست شرعية ولايته وحاكميّته لكونه قد تصدّى لهذا الأمر، بل لأنّه قد توفّرت في الشروط، كما أنّ أحدًا لم يتصدّ لهذا الأمر العظيم الذي يشكّل منعطفًا هامًّا وحساسًّا للأمّة الإسلاميّة، وله الدور الأساس في حفظ الدين والمجتمع الإسلامي.
وعلى هذا الأساس انطلق الإمام الخميني قدس سره، فقد رأى أنّ أحدًا لم يتصدَّ لهذا الهدف المهم، فشعر بالوجوب العيني يحيط به، وكان مستعدًّا للتنازل عن هذا التصدّي لو تصدّى من يراه أكفأ منه، لكن لم يتصدَّ غيره.
والخلاصة: إنّ التصدّي لوحده غير كافٍ، فلرّبما تصدّى من ليس أهلاً لذلك. والتصدّي ينفع عند تحقّق الشروط للولاية، وإحراز الأمّة توفّر هذه الصفات فيه، وعدم تصدّي فقيه آخر جامع لهذه الشرائط.
نظريّة الانتخاب
إنّ نظريّة الانتخاب يختلف معناها والمراد منها باختلاف الظروف المحيطة بأمر الولاية، فإنْ كان لدينا مشكلة تعدّد للفقهاء الجامعين للشروط، وكان هناك تفاوت في هذه الصفات، فإنّ الولي يكون مشخّصًا ومحدّدًا بالفعل، ويكون الانتخاب طريقًا للبحث، ومعرفة الأفضل بين الفقهاء.
ولكن لو صادف تساوي الفقهاء الموجودين بالصفات، فلا يكون هناك تعيّن في الواقع لمن هو الولي الفعلي، بل يكون جميع الفقهاء الذين تتوفّر فيه الشروط متساوين في هذا الحقّ، وتكون وجهة الانتخاب اختيار أحدهم لعدم إمكانيّة أن يكونوا جميعًا ولاة فعليين.
والانتخاب على كلا التقديرين لا دخالة له في الأهلية للولاية، فأهليّة الولي ثابتة بالنصوص والأدلّة، فعلى التقدير الأول هو مجرّد إعلان عن معرفته، وعلى التقدير الثاني يكون الانتخاب له دخل في فعلية ولاية الولي، وحسم التعدّد لصالح الوحدة، وترجيح المنتخب على غيره.
وتأتي نظرية الانتخاب على التقدير الثاني كحلّ عقلائي مقبول، دون أن يتنافى مع المسلّمات الشرعية بعد أن تبيّن معنا أنّ التصدّي لوحده غير كافٍ.
ولكن السؤال المطروح: كيف يكون هذا الانتخاب؟ وما هي الطريقة التي ينبغي للناس اعتمادها للكشف عن الولي؟
طرق التشخيص ثلاثة
لقد ذكرت الكتب الفقهية الطرق الثلاثة المعروفة: من شهادة أهل الخبرة، والشياع المفيد للعلم، والمعرفة الشخصيّة بالفقيه المتصدّي للمرجعية، وهذه الطرق الثلاثة لا يمكن تبنيها كلّها في باب الولاية.
الطريق الأوّل: البيّنة المؤلّفة من قول شاهدين من أهل الخبرة.
هذا الطريق لا يمكن اعتماده هنا لسببين:
الأوّل: لأنّ البينة ذات بعد فردي لا اجتماعي، فلا تشكّل أساسًا لمعرفة اجتماعية، إذ إنّ الذي يطّلع عليها هو الفرد، وهذا لا يفيد بالنسبة للأمّة، وعلينا البحث عن سبيل معرفة يحقّق معرفة جماعية لا فردية.
الثاني: لأنّه سيفسح المجال لأن يكون جميع الفقهاء ولاة فعليين، إذ ما من فقيه متصدٍّ أو يريد التصدّي إلا وسيجد من يشهد له بأهليّته لذلك.
الطريق الثاني: المعرفة الشخصية.
وهذا الطريق ينفع صاحب المعرفة فقط دون غيره، ويستحيل عادة أن يملك جميع أفراد الأمّة الخبرة الشخصية الكافية لمعرفة أهليّة الشخص للولاية.
الطريق الثالث: الشياع المفيد للعلم أو الاطمئنان.
وهو الطريق الوحيد المتبقّي الذي يمكن اعتماده هنا، وهو أن يكون هناك شياع يفيد العلم أو الاطمئنان2.
وما يسهّل الأمر هو إمكان تحصيل شياع مفيد للعلم أو الاطمئنان من خلال تشكيل مجلس حاشد من أهل الخبرة العدول، وبالتالي يمكن من خلال إيكال الأمر إلى هؤلاء تحصيل العلم أو الاطمئنان بكفاءة الشخص المعيّن للولاية، أو بأفضليّته إن كنّا نبحث عن الأفضل.
ومع تحصيل العلم أو الاطمئنان من قول أهل الخبرة بالأفضلية، لا يضرّ حينئذٍ أيّ قول معارض، لأنّ قول هذا المعارض هو في أحسن الحالات لن يفيد أكثر من الاحتمال الضعيف الذي لا يُعتنى به عقلائيًا، ويمكن للأكثرية المهمّة في مجلس حاشد من أهل الخبرة أن تفيدنا الاطمئنان، إن لم تفد العلم.
معنى الشياع:
وممّا ذكرنا يتبيّن أن الشياع ليس مجرّد شهرة بين الناس، بل هو عبارة عن إخبارات كثيرة من كثير من أهل الخبرة، فلا يكفي الشياع بين الناس ما لم يكن ناشئًا عن شياع بين أهل العلم والخبرة، وإلا فيمكن للدعاية أن تساهم في تحقيق هذا الشياع بعيدًا عن الأسس الصحيحة، كما لا قيمة لشياع أو شهرة تنشأ من قول شخص أو شخصين، بل هذا في الحقيقة خارج عن حقيقة الشياع ومندرج في البيّنة أو قول الشخص الواحد.
نتيجة البحث:
فتحصّل أنّه لا سبيل إلا بالشياع، وأنّ أفضل طريقة له هي تشكيل مجلس يضمّ حشدًا من أهل العلم والخبرة يشخّصون من خلال مشاورات بينهم واستشارة الآخرين من هو الولي، ويكون الانتخاب منهم، وليس انتخابًا مباشرًا من الناس.
وهذا ما اتّبعته الجمهورية الإسلامية المباركة أيّام الإمام الخميني قدس سره.
حيث يقوم الشعب الإيراني بانتخاب مجلس الخبراء، وهو مجلس أهل علم وخبرة واجتهاد، ويقوم هذا المجلس بدوره، المنتخَب من قِبل الشعب، بتشخيص الوليّ الذي تتوفّر فيه شروط الولاية، فيكون هذا المجلس المنتخَب من الشعب هو المنتخِب المباشر للولي، وليس الشعب.
1- الإسلام، الفقاهة، العقل، العدالة، حسن التدبير والإرادة. راجع الدرس الثامن.
2- الاطمئنان يدخل تحت عنوان الظن، فقد يشتدّ الظن ويقوى إلى أن يبلغ مرحلة يشابه فيها العلم, أي تارة يكون في قِبال الظنّ احتمال يلتفت إليه العقلاء ويراعونه في حياتهم، وأخرى يكون الاحتمال ضعيفًا لدرجة أنّ العقلاء يتعاملون معه معاملة العدم، ولا يراعون وجوده.
برامج
1390قراءة
2021-02-27 00:27:45