شهادة الإمام محمد الباقر (عليه السلام)
مكيدة الطاغية هشام مغادرة الإمام (عليه السلام) دمشق
أمر الطاغية هشام إغلاق جميع الحوانيت في دمشق بوجه الإمام خوفاً أن يفتتن الناس به، ويتبلور الرأي العام ضد بني أمية فأوعز إلى الأسواق في جميع المدن بإغلاق محلاتها التجارية الواقعة في طريق الإمام (عليه السلام). وقد أراد بذلك هلاك الإمام (عليه السلام) والقضاء عليه وعلى من معه. سارت قافلة الإمام (عليه السلام) وقد أضناها الجوع والعطش فاجتازت على بعض المدن فبادر أهلها إلى إغلاق محلاتهم بوجه الإمام، ولما رأى (عليه السلام) ذلك صعد على جبل هناك ورفع صوته قائلاً:
(يا أهل المدينة الظالم أهلها، أنا بقية الله، يقول الله تعالى: (بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ)(1) وما أنهى الإمام هذه الكلمات حتى بادر شيخ من شيوخ المدينة فنادى أهل قريته قائلاً: (يا قوم هذه والله دعوة شعيب، والله لئن لم تخرجوا إلى هذا الرجل بالأسواق لتؤخذ من فوقكم، ومن تحت أرجلكم فصدقوني هذه المرة، وأطيعوني، وكذبوني فيما تستأنفون فإني ناصح لكم).
فزع أهل المدينة فاستجابوا لدعوة الشيخ الذي نصحهم، ففتحوا حوانيتهم واشترى الإمام (عليه السلام) وقافلته ما أرادوه من المتاع (2) وفشلت بذلك مكيدة الطاغية، وقد انتهت إليه الأنباء، فلم يقف عند هذا الحد حتى دس إليه السم كما ذكرنا.
إلى الفردوس الأعلى
بعد أن أدى الإمام (عليه السلام) رسالته الخالدة من نشر العلم في مختلف الميادين وإذاعة القيم الإنسانية بين الناس، اختاره الله إلى جواره لينعم في ظلال رحمته إلى جوار آبائه وأجداده عليهم أفضل الصلاة والسلام.
اغتيال الإمام (عليه السلام)
قال معاوية بن أبي سفيان: إن لله جنوداً من عسل، وبعد أن استوضحنا عن هذا السلاح، العسل، عرفنا أنه(السم) كانوا يخلطون العسل بالسم ويقدمونه شراباً لمن أرادوا اغتياله.
لقد تفنن الحكام الأمويون في طرق الإجرام والاغتيال ومن بين الشهداء الذين اغتالوهم بهذه الطريقة الإمام الباقر (عليه السلام).
اغتالته بالسم أيد آثمة لا عهد لها بالله ولا باليوم الآخر. جاء في بحار الأنوار:
إن هشام بن الحكم هو الذي قام باغتيال الإمام فدس إليه السم. وهذا القول هو المرجح لأن هشاماً كان حقوداً على آل النبي (صلّى الله عليه وآله) ونفسه مترعة بالبغض والكراهية لهم. فكلف إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك ودس له السم وقد أهملت بعض المصادر اسم الشخص الذي اغتال الإمام واكتفت بالقول إنه مات مسموماً (3).
الإمام ينعى نفسه
شعر الإمام المعصوم بدنو أجله المحتوم وأخذت تراوده هواجس مريرة بمفارقة الحياة الدنيا، فخف مسرعاً نحو عمته السيدة فاطمة بنت الإمام الحسين (عليه السلام) وهو ينعي إليها نفسه قائلاً:
(لقد أتت علي ثمان وخمسون سنة...)(4).
ولما علمت السيدة ما قاله ابن أخيها ذاب قالبها حسرة وأسى عليه وهو بقية أهلها الذين استشهدوا في سبيل الله بسيوف البغي والضلال.
وصاياه
عهد الإمام محمد الباقر (عليه السلام) إلى ولده الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) بعدة وصايا كان من بينها: قال أبو عبد الله (عليه السلام):
(إن أبي قال لي ذات يوم في مرضه: يا بني أدخل أناساً من قريش من أهل المدينة حتى أشهدهم، قال: فأدخلت عليه أناساً منهم فقال: يا جعفر إذا أنا متّ فغسلني وكفني وارفع أربع قبري أصابع ورش الماء، فلما خرجوا، قلت: يا أبت لو أمرتني بهذا صنعته ولم ترد أن أدخل عليك قوماً تشهدهم، فقال: يا بني أردت أن لا تنازع)(5).
وقال ابن الصباغ:
(أوصى أن يكفن في قميصه الذي كان يصلي فيه وعن ابنه جعفر الصادق قال: كنت عند أبي في اليوم الذي قبض فيه، فأوصاني بأشياء في غسله وتكفينه في دخوله قبره، قال: فقلت له يا أبت والله ما رأيتك منذ اشتكيت أحسن منك اليوم ولا أرى عليك أثر الموت فقال: يا بني، ما سمعت علي بن الحسين يناديني من وراء الجدار: يا محمد عجل؟ ويقال: إنه مات بالسم في زمن إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك)(6).
وقال (عليه السلام): (يا جعفر أوصيك بأصحابي خيراً، فقال له الإمام الصادق (عليه السلام): جعلت فداك والله لأدعنهم، والرجل منهم يكون في المصر فلا يسأل أحداً)(7) لقد أوصى ولده بأصحابه ليقوم بالإنفاق عليهم ليتفرغوا للعلم ويدونوا حديثه ويذيعوا معارفه بين الناس.
كما أوصى بوقف بعض أمواله على نوادب تندبه عشر سنين في منى (8)، أعتقد أن السبب في ذلك يعود إلى أن منى هي أعظم مركز للتجمع الإسلامي أثناء الحج، ووجود النوادب فيه مما يبعث المسلمين إلى السؤال عن سببه، فيخبرون بما جرى على الإمام الباقر (عليه السلام) من صنوف التنكيل من قبل الأمويين واغتياله له ظلماً وعدواناً.
إلى جنة المأوى
أثر السم في بدن الإمام الطاهر (عليه السلام) وأخذ يدنو من الموت وهو متوجه إلى الله تعالى يتلو القرآن الكريم، وبينما لسانه مشغول بذكر الله إذ وافاه الأجل المحتوم، ففاضت نفسه المطمئنة إلى ربها راضية مرضية وقام وصيه وخليفته الإمام أبو عبد الله، جعفر الصادق بتجهيز الجثمان فغسله وكفنه بما أوصى به وصلى عليه، ونقل الجثمان العظيم بالتهليل والتكبير وقد حفت به الجماهير، والسعيد من الناس من لمس نعش الإمام... وسارت مواكب التشييع وهي تعدد مناقب الإمام وفضائله. وانتهى بالجثمان المقدس إلى بقيع الغرقد (9)، فحفر له بجوار أبيه الإمام السجاد (عليه السلام) وبجوار عم أبيه الإمام الحسن سيد شباب أهل الجنة (عليه السلام) وأنزل الإمام الصادق أباه في مقره الأخير فواراه فيه ووارى معه العلم والحلم والفضل والأخلاق والفقه والمعروف والكرم والبر بالناس.
قال أبو عبد الله (عليه السلام): (إن رجلاً كان أميال من المدينة فرأى في منامه فقيل له: انطلق فصل على أبي جعفر فإن الملائكة تغسله في البقيع فجاء الرجل فوجد أبا جعفر قد توفي)(10).
كان فقد الإمام الباقر من أفجع النكبات التي مني بها المسلمون في ذلك العصر، فقد خسروا بفقده القائد الفالح والرائد الصالح والموجه العظيم الذي جهد على نشر العلم لمقاومة الجهل والانحراف والظلم، وبوجوده تم الوعي الفكري والثقافي والديني بين المسلمين.
لقد انطوى كوكب من كواكب الإسلام الذي ما أظلت مثله سماء الدنيا في عصره علماً وفضلاً وحريجة في الدين.
فصلوات الله عليه وعلى أبيه وأجداده عدد ما في علم الله.
تعزية المسلمين للإمام الصادق (عليه السلام)
عندما عم الخبر هرع المسلمون من كل حدب وصوب إلى الإمام الصادق والحزن يدمي قلوبهم ليعزوه بمصابه ومصابهم الأليم، وليشاركوه اللوعة والأسى بفقد أبيه. وممن وفد عليه يعزيه سالم بن أبي حفصة. قال: لما توفي أبو جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام)، قلت لأصحابي انتظروني حتى أدخل على أبي عبد الله جعفر بن محمد فأعزيه به، فدخلت عليه فعزيته. وقلت له: (إنا لله، وإنا إليه راجعون) ذهب والله من كان يقول: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): فلا يسأل عمن بينه وبين رسول الله والله لا يرى مثله أبداً. قال: وسكت الإمام أبو عبد الله (عليه السلام) ساعة ثم التفت إلى أصحابه فقال لهم: قال الله تبارك وتعالى:
إن من عبادي من يتصدق بشق من تمرة فأربيها له، كما يربي أحدكم فلوه (11).
وخرج سالم بعد أن أخذ العجب منه مأخذه والتفت إلى أصحابه قائلاً: ما رأيت أعجب من هذا كنا نستعـــظم قول أبـــي جعفر (عليه السلام) قال رســـول الله (صلّى الله عليه وآله) بلا واسطة، فقـــال لي أبو عـــبد الله (عليه السلام): قال الله بلا واسطة (12).
ولا عجب ولا غرابة فالإمام الصادق (عليه السلام) ابن أبيه وحديثه مستمد من أحاديث آبائه الذين زقوا العلم زقاً وأخذوا علومهم من جدهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
(1) سورة هود، الآية 86.
(2) المناقب ج4 ص 690 والبحار ج11 ص 75.
(3) الأئمة الاثنى عشر لابن طولون ص 281.
(4) تذكرة الخواص 350 وجاء في كشف الغمة عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أن أباه قتل وهو ابن ثمان وخمسين سنة ومات علي بن الحسين وهو ابن ثمان وخمسين سنة وأنا اليوم ابن ثمان وخمسين سنة.
(5) بحار الأنوار ج 46 ص 216.
(6) الفصول المهمة ص 220.
(7) أصول الكافي ج1 ص 306.
(8) بحار الأنوار ج 11 ص 62.
(9) قال ابن منظور الغرقد: كبار العوسج وبه سمي بقيع الغرقد لأنه كان فيه غرقد، ومنه قيل لمقبرة أهل المدينة، بقيع الغرقد لسان العرب ج3 ص325.
(10) بحار الأنوار ج 46 ص 219.
(11) الفلو: المهر الصغير والأنثى فلوة والجمع أفلاء.
(12) أمالي الشيخ الطوسي ص 125.
معالم مشعة من حياة الباقر عليه السلام
د. حسين إبراهيم الحاج حسن
مهدي
1500قراءة
2016-01-19 19:51:14